في هذا المقال، نستذكر إحدى صفحات التسامح من التاريخ الإسلامي، وهنا نروي قصة عفو رسول الله عما فعله معه هبّار بن الأسود، وانعكاس ذلك على حالتهما النفسية. لما دعا رسول إلى الله في مكة، كان هبّار من أشد المتطاولين على رسول الله وآل بيته، ولا تسير قريشاً في حرب ضد رسول الله إلا كان هبّار معهم. وقال: «لو أسلمت قريش كُلها لم أُسلم» فقد قتل أخواه «زمعة» و«عقيل» وابن أخيه في غزوة بدر، وكان دائم التفكير في الانتقام من آل بيت رسول الله. فلما هاجر رسول الله إلى المدينة، أقدمت ابنته زينب على الانتقال من مكة إلى المدينة، ولما علم أهل قريش بذلك، اعترضوها على يد مجموعة من بينهم «هبّار بن الأسود»، الذي أخاف زينب بنت رسول الله وقرع ظهرها بالرمح، وكانت يومها حبلى فسقطت من الناقة، ونزفت. فكان جرم هبّار بن الأسود عظيم. فأمر رسول الله بهدر دمه، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن ظفرتم بهّبار فاقطعوا يديه ورجليه ثم اقطعوا عنقه» فكلما كان يبعث سرية، أوصاهم بهبّار من شدة ألم رسول الله بفقد زينب. يقول الزبير بن العوام: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكر هبّاراً قط إلا تغيظ عليه.» وعندما دخل رسول الله مكة فاتحاً، طلع هبّار على رسول الله، فقال: السلام عليك يا رسول الله، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك لرسول الله. فجعل يتعذر إلى رسول الله، ويقول: «سُب يا محمد من سبّك وآذِ من آذاك، فقد كنتُ موضعاً في سبك وأذاك وكنت مخذولاً، وقد بصرني الله وهداني للإسلام»، قال الزبير: فجعلت أنظر إلى رسول الله، وإنه ليطأطئ رأسه استحياءً منه مما يتعذر هبّار، وجعل رسول الله يقول: «قد عفوت عنك، والإسلام يجب ما كان قبله». وباعتناق الإسلام أزال همّ وذعر هبّار من هدر دمه، وأزال غيظ وألم رسول الله عما فعل به. ونهى رسول الله عن التعرض له. فالعفو هو سلوك إنساني وحضاري، يعكس ثقافة المجتمع الإسلامي.
ومن هذه القصة، التي تحمل أعلى معاني الاعتراف بالذنب والإساءة واستقبال عظيم الإساءة بالعفو، نبيّن للقراء أنّ للعفو تأثيراً إيجابياً ينعكس على الصحة النفسية. أظهرت دراسة علمية قام بها «جاكوب توم» في الولايات المتحدة، بأن المتسامح يقي نفسه من الأمراض العصرية، مثل الحقد والحسد والكراهية والتعصب والبخل والأنانية، ويساعد على راحة النفس وشفائها، ويمنح طاقة إيجابية للحياة. فالشعور الإيجابي يحسن من عملية تدفق الدم للقلب، ويمنح صحة أفضل للحياة. وأفضل طريقة يتخذها المتسامح في أنه لا ينتظر مقابلاً من الطرف المسيء إليه. وقد أثبتت الدراسات بأن مشاعر الاستياء والرفض والتعصب تضر بالصحة النفسية. وأن أول جزء يتضرر في أعضاء جسم الإنسان هو القلب.
يؤكد الخبير النفسي، «مارتن سليجمان»، أن الأشخاص الذين هم على صلة بالمحيط الخارجي، وعلى تفاعل وتواصل بالبشر بكافة أطيافهم وألوانهم هم الأكثر تسامحاً. أما الذين يعيشون في معزل عن الآخر وينطوون على أنفسهم فهم أقل تسامحاً وأقل سعادة ومعرضين للأمراض العصرية. تؤكد الدراسات العلمية أن الشخص غير المتسامح يبحث دائماً عن وسائل للانتقام ويهدر طاقة كبيرة في التفكير من أجل تحقيق مبتغاه. فالتفكير المستمر في الرد على مَن أساء إليه أو الانتقام منه يعرضه لنتائج سلبية ومنها كوابيس مزعجة ليلاً مصحوبةً بحالة من القلق والتوتر العام، وزيادة في الضغط النفسي، وارتفاع في ضغط الدم، وارتفاع السكري، وظهور علامات الشيخوخة.
إننا في أشد الحاجة إلى العناية بالصحة النفسية، والابتعاد عن الصراع النفسي، الذي له عواقب غير محمودة على الفرد. فالعصر الحالي مليء بتواترات العمل وبداخل الأسرة والمجتمع. فيجب أن يتغاضى الفرد عن الإساءة، من أجل صحته أولاً، ومن أجل راحة باله ثانياً. فالمتسامحون يرتقي بهم المجتمع، لذا كن أنت المبادر واجعل التسامح جزءاً من شخصيتك.
*أستاذ مساعد في أكاديمية الإمارات الدبلوماسية