رغم أن اليمين الراديكالي الجديد لم يحقق اختراقاً كبيراً في انتخابات البرلمان الأوروبي، التي أُجريت في نهاية الشهر الماضي، فقد أدى حصول كتله الأساسية الثلاث على مزيد من المقاعد إلى ازدياد المخاوف من صعوده.
ويثير هذا الصعود قضية العلاقة بين الجديد والقديم، ولماذا تظهر تيارات وتنتشر، بينما تأفل أخرى وتنحسر. وكثيراً ما يكون الجديد ناتجاً عن عجز القديم عن تجديد نفسه، كما هي الحال بالنسبة إلى اليمين الأوروبي الصاعد لأسباب في مقدمتها جمود المؤسسات السياسية، وعجز الأحزاب التقليدية عن تجديد هياكلها وأفكارها، وانغماسها في صراعات ونقاشات يراها عدد متزايد من المواطنين عقيمة. وليس فشل مجلس العموم البريطاني في الاتفاق على صيغة لـ«البريكست» على مدى أكثر من عام إلا مثالاً واحداً على الوضع الذي يتيح لقوى اليمين الراديكالي فرصاً لمزيد من التمدد.
وعندما وقفت رئيسة وزراء بريطانيا المستقيلة تيريزا ماي أمام الكاميرات في داخل مقر الحكومة «10 داوننج ستريت» في أول مارس الماضي، وشكت البرلمان إلى الشعب الذي قالت إنها تدعم حقه في الاختيار، وتحترم نتيجة استفتاء «بريكست» بخلاف النواب الذين رفضوا مشروع الاتفاق الذي توصلت إليه مع الاتحاد الأوروبي، كان هذا أحد المواقف الأكثر وضوحاً في التعبير عن حال المؤسسات المنتخبة في كثير من الدول الأوروبية، وليس في بريطانيا فقط.
لم تُتهم «ماي» في أي وقت بأنها راديكالية، أو شعبوية، أو غوغائية، ولذا، حمل موقفها ذاك مغزى مهماً بشأن أداء المؤسسات المنتخبة، وسلوك النُخبة السياسية في بريطانيا، كما في دول أوروبية أخرى.
غير أن هذه النُخب لم تُدرك بعد أن ضعف أدائها يفتح الباب أمام قوى جديدة قادمة من خارج الأطر السياسية التقليدية، كما حدث في الولايات المتحدة عند انتخاب الرئيس دونالد ترامب، ولكن بطريقة تدريجية في أوروبا. والأرجح أن النخبة البرلمانية البريطانية، التي شكتها ماي إلى الشعب، لم تلاحظ دلالة العنوان الذي اختارته مجلة New Statesman الرصينة لغلاف عددها الصادر في 14 أبريل 2019، وهو فشل النظام. وقصدت به معنى يتجاوز أزمة «بريكست»، ويشمل التراجع غير المسبوق في مستوى ثقة المواطنين في السياسيين، والانخفاض الملموس في شرعية البرلمان.
وقد تجلى هذا التطور في الخسائر التي مُني بها الحزبان الرئيسان (المحافظون والعمال) في الانتخابات المحلية في أول مايو 2019، ثم في انتخابات البرلمان الأوروبي التي أُجريت بين 23 و26 من الشهر نفسه، بعد أن كانا قد حصلا معاً على القسم الأعظم من أصوات الناخبين، وتناوبا الحكم، لعقود طويلة.
وحدث مثل ذلك في دول أوروبية كبرى أخرى، مثل فرنسا حيث يزداد حضور حزب مارين لوبان «الجبهة الوطنية»، وإيطاليا حيث تصدر حزب ماتيو سالفيني «رابطة الشمال» الخريطة السياسية بعد أن حقق اختراقاً كبيراً في انتخابات البرلمان الأوروبي، وغيرهما.
ولذا، يزداد القلق في العالم من صعود هذه القوى اليمينية ذات الاتجاهات الراديكالية. غير أن هذا القلق ينبغي أن يؤخذ بحذر، لأنها لم تُختبر بعد بدرجة تكفي لإصدار أحكام قاطعة عليها، فضلاً عن أنها كلها تقريباً لا تنطلق من مرجعيات مغلقة، أو اتجاهات عقائدية صارمة، بل يتخذ الكثير منها مواقف عملية «براجماتية» في معظم الأحيان، الأمر الذي يجعل ميولها الشعبوية ذات طابع وظيفي، وليس أيديولوجياً. فهذه الشعبوية، التي تنعكس في خطابات تتسم بالفجاجة أحياناً، تؤدي وظيفة محددة في مخاطبة مواطنين سئموا اللغة المتعالية التي يتحدث بها معظم السياسيين التقليديين.
وبرغم أن موقف هذه القوى ضد المهاجرين إلى أوروبا بطريقة غير مشروعة يثير حفيظةً في العالم العربي، وأفريقيا، ينبغي وضع هذا الموقف في سياقه، والتعامل معه بطريقة منصفة، والبحث عن سبل للتعاون من أجل معالجة ظاهرة الهجرة غير النظامية.
ولعل أكثر ما يتعين الحذر منه، في سعينا إلى فهم أبعاد ظاهرة اليمين الأوروبي الجديد، هو الخلط الذي يحدث بين مواقفه، واتجاهات اليمين الفاشي – النازي الذي حكم إيطاليا من عام 1922، وألمانيا من عام 1933، حتى منتصف الأربعينيات.
وفي هذا الخلط إغفال لتغيرات عميقة حدثت في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، واختلافات أساسية بين اليمين الراديكالي الجديد الذي تحمله موجة شعبية تؤيد شعاره الأثير «إعادة السلطة إلى الشعب»، واليمين الفاشي القديم الذي صعد على أكتاف جمهور حركه غضب عارم نتج عن تراكم مزيج من إحباطات الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، وتداعيات أزمة اقتصادية خانقة.
* مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية