أعادت الزيارة التاريخية للرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى كوريا الشمالية السؤال الملح والمتكرر عن مستقبل كوريا الشمالية، فمنذ أحداث أواخر الثمانينيات التي اجتاحت المنظومة الشيوعية وغيرتها على نحو جذري، وسؤال كوريا الشمالية يطرح في التحليلات والأخبار؛ هل تنهار؟ هل تتغير؟ هل تحدث ثورة؟ هل تبقى قلعة الشمولية الأخيرة؟ وإذا تغيرت ففي أي اتجاه تتغير؟ النموذج الكوبي؟ الصيني؟ الروسي؟ أوروبا الشرقية؟ الفوضى والانهيار؟ أم هناك نموذج آخر مختلف يحتمل أن تمضي فيه كوريا الشمالية؟
لقد ظلت كوريا الشمالية بؤرة ساخنة وخطيرة في الصراع والحرب الباردة، وظلت كذلك بعد نهاية الحرب والتسويات الكبرى التي جرت في العالم منذ أواخر الثمانينيات. ويبدو أن ثمة التزاماً صامتاً متفقاً عليه وغير معلن بين الولايات المتحدة والصين وكوريا الجنوبية واليابان على منع الانهيار الكوري الشمالي، وإجماع على ضرورة التغيير، لكنه تغيير مختلف عليه بين الدول السابقة، ويبدو أن الاتجاه الأميركي الفعلي أو الواقعي هو التنسيق مع الصين لتتحول كوريا إلى جزء من العالم يتقبلها وتتقبله، وأن ينتهي بالطبع التهديد الخطير الذي تشكله لجارتها الجنوبية واليابان، وربما تتمنى كوريا الجنوبية (عاطفياً وقومياً) على الأقل أن يصبح البلدان بلداً واحداً، كما حدث في ألمانيا عام 1990، لكنها وحدة مرهقة اقتصادياً لكوريا الجنوبية، وربما تخلّ بميزان القوى الجيوسياسي والجيواستراتيجي، فلا الصين ولا اليابان تفضل أن تتحول كوريا إلى دولية كبرى، ولا تريد الصين أيضاً أن تخسر قوتها ومزاياها الاستراتيجية في كوريا الشمالية، لكنها لا تستطيع الاستمرار في ذلك، ولم يكن الانفراج السياسي والاقتصادي بعد الأزمة الأخيرة والخطيرة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية بعيداً عن التفاهمات بين الدولتين العظميين بشأن كوريا الشمالية.
عبرت كوريا الشمالية رسمياً عن إعجابها الكبير باللقاء الذي جرى بين الزعيمين الأميركي والكوري الشمالي، ووصفته بأنه لقاء تاريخي ومدهش، وبالطبع فإن تاريخيته ليست مستمدة فقط من كونه الزيارة الأولى لرئيس أميركي لكوريا الشمالية، لكنه خطوة جديدة ومتقدمة (ربما) في الاتجاه نحو علاقة واستراتيجيات عالمية وإقليمية جديدة، ولكن لا يبدو سهلاً وعملياً أن يجري تحول سريع وكبير بمجرد زيارة تاريخية، ولقاء ودي أمام وسائل الإعلام، فكوريا الشمالية التي تملك ترسانة نووية وكيماوية خطيرة، تحتاج أيضاً إلى تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية تجعلها تشبه العالم! وهذا برنامج معقد ومكلف لا يقلّ خطورة وتعقيداً عن تسوية قضية أسلحة الدمار الشامل، وليس لدى ترامب حتى الآن سوى تخفيف العقوبات عن كوريا الشمالية، وربما يخيف ذلك كوريا الجنوبية ويقلقها، فلا يمكن في الواقع أن تدار التحولات الاقتصادية والاجتماعية من غير كوريا الجنوبية، ولن تشارك هذه من غير مبادرات مهمة تجريها الشمالية في المقابل في سلاحها النووي والتدميري؛ ونظامها السياسي أيضاً.
يعلق كثير من الإعلام الغربي على الزيارة بالقول إنها دراما سياسية انتخابية لا تعكس تقدماً حقيقياً في السلم العالمي والإقليمي، لكنها على أي حال فرصة تاريخية عظيمة وغير مسبوقة لتتمكن هذه الدولة المعزولة من الاندماج في العالم، ويستطيع مواطنوها التمتع بحياة معاصرة، فمازال الكوري الشمالي يتعرض لعقوبة الإعدام إذا شاهد التلفزيون الكوري الجنوبي!
كانت وفاة الرئيس الكوري الشمالي السابق «كيم جونغ إل» أواخر عام 2011 مناسبة لطرح السؤال، وباهتمام كبير، حول إمكانية أن تشهد كوريا الشمالية مثل ما شهدته منطقة الشرق الأوسط، وتبدو الإجابة الغالبة- حسب دراسات أميركية - أن النظام في كوريا الشمالية مستقر، ولم يغير فيه انهيار الاتحاد السوفييتي ولا وفاة كيم الأول في منتصف التسعينيات ولا المجاعة التي قتلت الآلاف، لقد خرج النظام سالماً وإن مترنحاً. ولكن الأحداث التي جرت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أظهرت أمرين اثنين: التغيير يمكن أن يحدث فجأة، وأن أسباب السقوط والانهيار لنظام سياسي حتى وإنْ كانت موجودة، فالانهيار يمكن ألا يحدث أو يتأخر.
لا تبدو كوريا الشمالية تعيش بطالة أو فجوة اقتصادية واجتماعية داخلية، فالكل في الفقر سواء! لكن العولمة يمكن أن تخترق الجدار الكوري، وتضع القيادة السياسية أمام ثورة جماهيرية مفاجئة وخارجة عن السيطرة.
ويمكن أيضاً ملاحظة تغيرات اقتصادية مهمة في داخل كوريا الشمالية برغم استمرار هيمنة الشمولية الشيوعية المتطرفة، فقد بدأت مشروعات فردية واتجاهات اقتصادية نحو التقنية والتسلية والترفيه، ودخلت الإنترنت والهواتف النقالة إلى البلاد، وبدأ القطاع الخاص يدخل إلى الأسواق والمجالات الاقتصادية إلى جانب القطاع العام المهيمن، وبدأت جامعة العلوم والتكنولوجيا في بيونج يانج تدرّس اللغة الإنجليزية وتتيح المجال للدخول إلى شبكة الإنترنت، ودُشنت منطقة للتجارة الحرة مع الصين في جزيرتين صغيرتين قرب مدينة داندونغ الصينية، وأصبحت مناطق واسعة في كوريا الشمالية تعتمد على نفسها في توفير الغذاء والحياة اليومية بعيداً عن تدخل الحكومة ومساعدتها.
*كاتب وباحث أردني