يعتقد كثيرون أن فراغ السلطة لا يقع إلا في عالم السياسة المحلية والدولية، من منطلق رؤيتهم القاصرة التي لا ترى السلطة بالضرورة إلا من خلال الأوضاع الرسمية المربوطة بالدولة، أو النظام الدولي، أو بمعنى أدق، النظام السياسي الذي يمثل قلب الدولة من الناحية الرسمية المتعارف عليها، بمعناها السياسي والاجتماعي والثقافي والرمزي. لكن في الحقيقة فإن السلطة موجودة في كل شيء، صغر أم كبر، تعلق بالدولة، أم بغيرها، بعوالم الإنسان الذي يعي أهمية أن تكون هناك حكومة، لتؤدي وظائفها حيال الناس، أم حتى في ممالك الحيوانات والحشرات، ففي جميعها هناك من يقود، وهم القلة، وربما الواحد، وهناك من يقاد.
وفي ممالك الحشرات والحيوانات يبدو الأمر أكثر وضوحاً ورسوخاً وانتظاماً واتساقاً واتفاقاً، فالقطيع يمضي بالغريزة وراء ما يقوده، ولا يعطي وقتا للتفكير في هذا، وربما لا يفكر أساسا، حتى لو افترضنا جدلا، بعد الاطلاع على العلوم المختصة، أنه يعي تدرج السلطة، لكنه يؤمن بأن ترك القيادة لواحد أمين قادر، هو الخيار الأفضل بالنسبة له.
وفي حياة البشر فإن السلطة توجد في كثير من البنى الاجتماعية وتشكلاتها، رسمية كانت أم غير رسمية، راسخة الوجود في المجتمع أم حديثة وطارئة، متفقا عليها بين الأغلبية أم غير ذلك من بين السلطات التي تفرض سطوتها، وتعلن وجودها عنوة، وقد يعتقد البعض أننا هنا في مجال للحديث عن التمثلات أو التشكلات الأولى للسلطة السياسية، متمثلة في شيخ القبيلة في النظم الاجتماعية التقليدية، أو شيخ البلد والعمدة في النظم الريفية، التي إن كانت لها همزة وصل مع النظام الرسمي فإن القائمين عليها يتصرفون في الغالب الأعم وفق التقاليد المرعية في الريف، وما تمليه عليه ضمائرهم، وما تفرضه ارتباطاتهم بالناس والتي تقوم على علاقة «الوجه للوجه»، وتحكمها القيم الراسخة المتعارف عليها بين الجماعة، والتي ورثها الأبناء عن الآباء.
وقد يصدم البعض حين يدركون أن فراغ السلطة قد يحل حتى في العصابات الإجرامية المنظمة، وقد تتعمق صدمتهم وتتسع حين يدركون أن الفراغ في مثل هذه الحالة يكون أشد وطأة. فعلى الأقل في التنظيمات والنظم الرسمية، سياسية كانت أم اجتماعية أم ثقافية، هناك إعلان عن اسم من يشغل المنصب الأول، ومن يلونه يعرفهم الناس، وحتى لو كان هناك من يمارس سلطة خفية، أحيانا تكون أشد تأثيرا، فإن موقعه في التدرج الرسمي الموجود والثابت في دفاتر الدولة وأضابيرها، يجعله موضع نظر، ويمكن آخرين من رقابته، إن دعت الضرورة إلى ذلك.
لكن هناك بين البشر أنماطا من السلطة خارج المسار الرسمي، يمكن أن يحل فيها فراغ. فداخل العصابات الإجرامية يمكن أن يكون هناك نمط من السلطة، قد يشهد فراغا، لأسباب مختلفة، حتى لو لم يكن سلطة شرعية مشروعة معلنة، إنما أخرى تخترق القانون، وتعمل في السر، وتسعى إلى الإضرار بالمجتمع، ولا تنشغل بتلبية أية التزامات حيال المجتمع، بل إنها تضر به، حتى لو لم تقر بهذا.
فالعصابات الإجرامية الكبرى، أو المافيا، تمتلك نمطاً من السلطة الصارمة، وتعمل طيلة الوقت على عدم حدوث فراغ فيها، مدركة أن من شأن هذا أن يوقع خللاً جسيماً في بنيانها. ففي عالم الجريمة يعمل تجار المخدرات طيلة الوقت على تجنب وقوع أي فراع في سلطتهم المتدرجة، ويعتبرون هذا جزءا أصيلا من نجاحهم، من منطلق إدراكهم أن حدوث فراغ في سلطة المنظمة يعني انهيارها.
ويمكن للأمر أن يمتد إلى الحالات الفردية، فرب الأسرة، لاسيما في المجتمعات التقليدية، يحرص دوما على ألا يترك خلفه فراغا في السلطة الاجتماعية، لأنه يدرك بالخبرة أو السليقة، أن هذا من شأنه أن يهدم الأسرة برمتها.
إن هذا يبين أن الحاجة إلى وجود سلطة تقود المجتمع، أيا كان نوعها أو مستوى حذقها وإخلاصها، تبدو من قبيل «الغرائز الاجتماعية»، وأن الحرص على عدم وجود فراغ في هذه السلطة هو مسألة لا تخلو من غريزة، لكنه في الوقت نفسه، لا يمكن أن يُعزى الدافع لهذا إلى أسباب تتعلق بميل أغلب الناس إلى الاستحواذ والاستئثار، إنما أيضا إلى شعور المتقدمين في الحياة الاجتماعية والسياسية بأن عليهم واجب الحفاظ على الكيان الاجتماعي، وأن يبقى متماسكا، ويمتلك القدرة على الاستمرار.
*روائي ومفكر مصري