ما مرّ على البشرية منذ بدء الخليقة إلى نهايات القرن الثامن عشر شيء، وما مرّ عليها بعد ذلك وإلى يومنا هذا شيء مختلف، إذ التغيير مستمر في أشكال مختلف العلاقات بين البشر، حيث إن الأطراف التي كانت قوية، أو تُؤثر، أو تُقرر عن غيرها، أو لا تتعرض لأي حساب أو كتاب، تفقد عناصر قوتها، وتأثيرها، وتُسحب سلطة اتخاذ القرار من بين أيديها، لصالح الأطراف التي كانت أضعف، أو يُؤثر فيها، أو يُقرَّر عنها.
فمنذ الثورة الفرنسية سنة 1789 والعالم يشهد تغييراً مستمراً في طبيعة العلاقة بين السُلطة والشعب. ومنذ اختراع المحرك البخاري وانبثاق الثورة الصناعية والتغييرات لا تتوقف في شكل العلاقة بين صاحب العمل والعامل. ومنذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 والمرأة تنتزع الحقوق من الرجل. ومنذ مؤتمر فيينا سنة 1814 الذي طرح حقوق الأقليات، والأقليات تكسب الجولات في مقابل الأكثريات. ومنذ إعلان حقوق الطفل سنة 1959 صار له وضع داخل أسرته وبيئته.
وليس ثمة علاقة بين طرفين إلا وهي تشهد التغيير من حيث طبيعتها والتزامات وحقوق الجانبين، ودائماً التغيير يكون لصالح الطرف الأضعف، أو المتلقي، أو المستهلك، كالعلاقة بين الطبيب والمريض، والموظف والعميل، ورجل الدين والفرد العادي، والسائق والمشاة، والجندي والأسير، والمطعم والزبائن، والمعلم والتلميذ، والمخدوم والخادم.
ولنأخذ العلاقة بين الصحيفة والقارئ لتوضيح ما جرى، فقد اتسمت هذه العلاقة منذ بداية عهد الناس بالصحف قبل ثلاثة قرون بطرف يدلي وطرف يتلقى. وبدأت الموازين تميل نحو القارئ قليلاً مع ظهور الإنترنت، حيث صار له مساحة ليدلي برأيه في الصحيفة من خلال موقعها الإلكتروني، ثم أتيح للناس القراءة اليومية عبر وسائط أخرى غير الصحيفة، كالمدونات الإلكترونية، حتى الخبر الذي كان يعطي الأفضلية للصحيفة، صار القارئ ينافسها عليه من خلال برامج التواصل، إلى درجة أن الصحف صارت تستقي بعض أخبارها من خلال الأشخاص الذين كانوا يوماً من فئة المتلقين.
وكان المذنب يُنظر إليه كوحش لا حقوق له، ويُعامل بمنتهى القسوة ويتعرض لأبشع أنواع العقاب، إلى أن بدأت تظهر الدراسات العقابية التي بحثت مسائل إدارة السجون وحقوق السجين والمعاملة العقابية بشكل عام، ثم تطورت حقوق السجناء بشكل كبير مع ظهور المزيد من النظريات حول الجريمة والعقاب والتأهيل والإصلاح وغيرها، حتى كانت المواثيق الدولية الخاصة بالسجناء، وآخرها «قواعد نيلسون مانديلا» التي اعتمدت من قبل الأمم المتحدة سنة 2016 كصيغة للحد الأدنى لمعاملة السجناء. وهكذا تغير شكل العلاقة بين السجين والسجّان والسُلطة التي يمثلها، والعلاقة بين المذنب والمجتمع.
التغيير كما يقال سُنة الحياة، وعدم فهم ما يجري من قبل أي طرف كان هو الذي يقول ويقرر، يجرّه إلى الصدام الخاسر، أو المحاولة الفاشلة نحو إعادة تشكيل العلاقة، ثم معاداة المجتمع، ظناً منه أن القضية شخصية وتتعلق به وحده، رغم أن التغيير يحدث مع الجميع، ولا أحد يخسر فيه إجمالاً، فما منا إلا وهو يقوى في علاقة كان الضعيف فيها تاريخياً، ويضعف في علاقة كان القوي فيها.
*كاتب إماراتي