تتعدد رحلات الرسل. وما من رسول إلا وله رحلة. وتعني الرحلة بالمعنى الحرفي الانتقال من مكان إلى مكان، مثل انتقال إبراهيم من مدينة أور بشمال العراق إلى الحجاز غرب شبه الجزيرة العربية، وانتقال موسى من طيبة عاصمة مصر إلى جنوب الوادي إلى سيناء وهو في طريقه إلى الأراضي المقدسة، دون إكمال الرحلة والوصول إلى الغاية. وظل بنو إسرائيل في التيه حتى قادهم «يوشع» بعد وفاته وحاربَ الكنعانيين واستقر بفلسطين. ورحل يوسف من فلسطين إلى مصر بعد أن تركه إخوته في البئر حسداً منهم. واشتراه المصريون وتربى في قصر العزيز، ثم أعادوه إلى أبيه في فلسطين واعتذار إخوته له. ورحل عيسى- عليه السلام- من فلسطين إلى مصر مع أمه خوفا من ذبح هيرود الأطفال، خوفا على عرشه، ثم عاد إلى فلسطين، ورحل من بيت لحم إلى القدس على حمار رافعاً بيده غصن الزيتون. وهاجر محمد صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المدينة، ثم عاد إليها عام الفتح «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا». وقد تكون الرحلة من مكان إلى «لامكان» هرباً من المكان الأول، مثل ركوب نوح السفينة هرباً من الفيضان، رحلة من اليابسة إلى الماء، ودخول يونس في بطن الحوت.
وتبدأ الرحلات خوفاً من الاضطهاد في المكان الذي نشأ فيه الرسول. فهي رحلة قسرية اضطرارية وليست اعتيادية. اضطر إبراهيم إلى مغادرة قومه وأبيه بعد أن كسر الأصنام وعلق الفأس في رأس أكبرها، إثباتاً لهم أنه لا يستطيع الإجابة على سؤال (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ)، وغادر يوسف أهله بعد أن أخذه إخوته معهم وتركوه في البئر للتخلص منه وهو طفل صغير وأبوه يخشى عليه من أن يأكله الذئب. وموسى غادر مصر خوفاً من فرعون بعد أن اكتشف أن ابنه الذي تبناه، نبي من أنبياء بني إسرائيل. جاء ليأخذهم من مصر. وعيسى هرب من مصر مع أمه، خوفاً من ذبح الأطفال، كما فعل «هيرود» لأنه أخبر أنه سيخرج ملك يقضي على ملكه. وهاجر محمد من مكة بعد أن علم توعد كفار قريش بقتله.
وقد يعود الرسول إلى المكان الذي رحل منه فائزاً منتصراً، مثل عودة يوسف إلى أبويه ومغادرته مصر، وعودة المسيح إلى فلسطين من مصر ودخوله القدس، وعودة محمد إلى مكة بعد عام الفتح. وقد لا يعود الرسول إلى أصله الأول، مثل عدم عودة إبراهيم إلى شمال العراق واستقراره بالحجاز. وعدم عودة موسى إلى جنوب الوادي واستقراره بسيناء.
وقد تكون الرحلة روحية خالصة، من مكان إلى مكان في الأرض، ثم من مكان في الأرض إلى مكان في السماء، كما حدث للرسول ليلة الإسراء والمعراج. وهي رحلة بالروح أكثر منها رحلة بالجسد. وهي رحلة على نقيض رحلة آدم أبي البشر وأول الأنبياء من السماء إلى الأرض بعد الهبوط من الجنة، جزاء له على عصيان ربه والأكل من الشجرة المحرمة تحت غواية الشيطان في قراءة، أو امرأته حواء في قراءة أخرى. فالرحلة هنا ليست أفقية من الأرض إلى الأرض، بل رحلة رأسية من السماء إلى الأرض في حالة آدم، ومن الأرض إلى السماء في حالة محمد. وكلاهما بأمر الله، وليس باختيار الرسول.
ولكل رسول قبل البعثة أم بعدها، في بدايتها أم في نهايتها، فترة عزلة وتأمل بعيداً عن قومه، يناجي فيها ربه، ويصقل فيها روحه، كما فعل موسى عندما ترك بني إسرائيل بعد أن عصوه وصعد إلى الجبل يناجي ربه، وكما سمع صوته عندما رأى ناراً وتجرأ في طلب رؤيته. وقد غادر عيسى المدينة وذهب إلى الصحراء وقاوم غواية الشيطان. ومعروف تحنث الرسول في رسالته، طالباً المدد من السماء حتى يعمل في الأرض، والدخول إلى أعماق النبوة بالتجربة الروحية.
*أستاذ الفلسفة- جامعة القاهرة