من الطبيعي أن يظهر الحنين إلى الإعلام التقليدي وقواعده المهنية، رغم طبيعتها البيروقراطية. لأن ما لمسناه في أداء «سوشيال ميديا» يصيب المتابع بخيبة أمل، نتيجة لسيطرة الركاكة ونشر الشائعات ولغة الشوارع على هذه الأدوات.
كان الإعلام التقليدي يتصف بالمهنية. وكانت له شروط صارمة، مثل الشروط التي تُفرض على الكاتب الأكاديمي، الذي لا يستغني عن المراجع والمصادر. ورغم أن هذا أسلوب بيروقراطي، لكنه أسلوب راقٍ. ومن يستخدم الأسلوب البيروقراطي الموضوعي يصعب عليه استخدام لغة الشوارع. والعكس صحيح أيضاً. من لا يجيد الاعتماد على المصادر يلجأ إلى الكذب والشائعات واللغة الرخيصة والشتائم. وهذه إحدى مخاطر الإنترنت الذي هدم المهنية الإعلامية.
صحيح أن لكل شكل جديد من أشكال النشاط البشري إيجابيات وسلبيات وآثاراً جانبية. لكن إذا حاولنا تقييم النشاط الإعلامي المكثف على الإنترنت، عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، نرى السلبيات أكثر بكثير من الإيجابيات، وأن التبشير بهذه الأدوات في بداية الأمر، كان ينظر فقط إلى سهولة نقل المعلومة وإلى تعدد مصادرها وسهولة استخدامها من قبل جميع الأفراد، فكل إنسان أصبح بمقدوره أن يكون ناقلاً للحدث أو معلقاً عليه أو محللاً لخلفياته وما بين سطوره. وهنا ينكشف المدخل الذي يتسلل عبره الخداع والتجنيد السيئ لهذه الأدوات لاستهداف المجتمعات، لأن الإعلام سلاح لا يتخلى المغرضون عن استخدامه. وتكمن الخطورة أيضاً في الانفلات وتجاهل القيمة الثقافية والمهنية، مقابل رفع شأن النجومية مهما كان ضعف وهزال مستواها المعرفي والمهني.
لذلك لا بد من فتح نقاش نقدي حول هذه الظاهرة. وأعتقد أن التظاهر بتشجيع هذه الفوضى والسكوت على أخطائها، سببه القلق من تبعات مواجهة نجوم وسائل التواصل الاجتماعي وجمهورهم المتعصب. صحيح أن قنوات البث عبر الإنترنت أصبحت منافسة للقنوات التلفزيونية، وأكثر مشاهدة منها، بدليل أن محطات التلفزيون لا تستغني عن حساباتها التي تبث مقاطعها على الإنترنت. لكن في المقابل، أصبحنا أمام سيل من قنوات يوتيوب التي تتخفى وراء حسابات وهمية. تروج إما للكراهية أو تؤجج الخلافات وتزرع الفوضى وتنشر الشائعات. وعندما يكون هناك حدث ما، تقوم تلك الحسابات بتأويله واختراع قصص خيالية حوله. وبالتأكيد هناك من يقف وراء هذه الحسابات. والأخطر من كل ما سبق أن محتواها يؤدي إلى التشكيك وإلى هدم قواعد الثقة بمنابر الإعلام وبالخطاب الوطني المحلي. لكن فقدان الثقة يطال كذلك حسابات ومواقع من ينشرون الشائعات، لأن الرسالة التي تتعزز لدى مستخدم الإنترنت في مجتمعاتنا، تخبره أن الكثير مما يشاهده على الشبكة قد لا يكون حقيقياً. وكل يوم نشاهد مقاطع أو نطالع تغريدات لأسماء مستعارة، تهدف من خلال نشاطها إلى العمل لصالح جهات تحركها بالأموال، أو أن أصحاب تلك الحسابات يسعون بأي ثمن لحصد النجومية وزيادة أعداد المتابعين للدخول إلى سوق الإعلان. وفي عالم السوشيال ميديا هناك من ينخرطون في سوق الإعلان تحت غطاء الترويج لماركات رخيصة من المكياج أو الأزياء، بينما يتخصص آخرون في نشر الدعاية السوداء وارتداء أقنعة إعلامية زائفة.
وهناك من يمنحون أنفسهم ألقاباً وصفات لا أساس لها في الواقع، وما أسهل لقب إعلامي الذي يلصقه بعضهم باسمه، ثم نكتشف أن كل ما لديه مجموعة تعليقات ركيكة ومبتذلة. إضافة إلى شيوع التنمر والاعتياد على الإساءة لمهنة الإعلام، والإيحاء بأنها مهنة نشر الأحقاد والتعبير بعدوانية تجاه الآخرين. تلك هي الموجهات التي تتحكم بأداء الكثير ممن يطلقون على أنفسهم إعلاميين على الإنترنت! ولسان حالهم يقول: إن كنت تريد أن تصبح مشهوراً يجب أن تقبل أن تكون رخيصاً.
لا نأسف على الأسماء المحروقة التي نعرف لماذا تقوم بأدوار من هذا النوع، كما أن الأسماء المجهولة تكشف أن الممول واحد، وأنه قام بإنشاء حسابات وهمية لنشر المزيد من العبث والغثاء. وفي النهاية يفقد المتلقي الثقة بعالم السوشيال ميديا بعد أقل من عقدين على ظهوره.
ورغم تزايد هذه الفقاعات على الإنترنت، إلا أن أصحابها بلا تاريخ ولا يثق بهم الجمهور الذي يبحث عن تسلية لا أكثر، لكن الخطر يكمن في غرس صورة مشوهة عن الإعلام، وفي جعل العبث الإعلامي على الإنترنت سلوكاً طبيعياً. فما يقومون به هو السب والقذف وتجاهل أهمية الاعتماد على مصادر للمعلومات.
*كاتب إماراتي