ما كانت جولة الوزير جبران باسيل المأساوية في منطقة الجبل الدرزي هي المرة الأولى. وفي كل مرة يجول في عدة قرى مهدداً ومتوعداً ومسترجعاً لأحداث الماضي الأليم بين الدروز والموارنة. وبعد الذي حدث هناك اليوم رأيان: الرأي الأول يقول إنّ الأمر لم يعد يحتمل، وكان لا بد من تلقينه درساً بإظهار سخط الناس على استثاراته، واستتاره واستتار نظام الأسد بآل أرسلان لخنق وليد جنبلاط أو إحراجه على الأقل. والرأي الآخر يذهب إلى أنّ جنبلاط كان ينبغي أن يصبر، وبخاصةٍ أنه اعتمد ذلك من قبل عندما حضر احتفالاً في كنيسة دير القمر قبل شهرين دعاه فيه جبران باسيل إلى التوبة قبل المغفرة! وجنبلاط يعتبر أنه «تاب» منذ مصالحة الجبل برعاية البطريرك صفير عام 2001.
ما دخلت حكومة لبنان حتى الآن إلى ما بعد أحداث الجبل. سلّم الاشتراكيون عدة أفراد طلبتهم القوى الأمنية لعرضهم على القضاء. وقد كان ذلك يحدث في كل مرةٍ يُقتل فيها واحدٌ من جماعة جنبلاط أو أرسلان في الشويفات (بلدة الصدام الدائم بين الطرفين). بيد أنّ أهمَّ ما حدث هذه المرة هو عجز الحريري عن جمع مجلس الوزراء، لأنّ وزراء باسيل (11 وزيراً) لم يحضروا إلى السراي بل اجتمعوا في مكتب باسيل بوزارة الخارجية! وسيجتمع المجلس بالتأكيد في المرة القادمة عند رئيس الجمهورية، فهل سيُطرح فيه اقتراح تحويل القضية إلى المجلس العدلي الذي تُعرض عليه القضايا التي تُهدّدُ أمن الدولة؟ الحريري وبرى عارضا ذلك حتى الآن ويريدان أن تبقى القضية في يد القضاء العادي. والتوتر مستمر، فباسيل يريد زيارة طرابلس، والطرابلسيون يعتزمون التظاهر ضده إذا حصل ذلك.
لماذا هذا الإصرار على الإثارة والتوتير؟ هناك رأيان في هذه المسألة أيضاً واحد صغير ومحلي والآخر كبير. الأول يقول إنّ باسيلاً يريد كل الوقت وعند المسلمين والمسيحيين والدروز إثبات أنه المسيحي القوي والأوحد ليتأهل لرئاسة الجمهورية بعد عون. المسيحية الشعبوية هذه المرة معه كما كانت مع كميل شمعون في أواخر الخمسينيات، ومع بشير الجميل في أواخر السبعينيات. وقد ضعُف خصماه الرئيسيان فرنجية وجعجع عندما سلّما للمسيحي القوي الجنرال عون عام 2016. وهما صامتان تقريباً الآن حتى لا يقول أحد إنهما يفرقان كلمة المسيحيين. أما السنة فهم متذمرون جميعاً وكذلك الدروز. والشيعة يقودهم نصر الله ومعظمهم مع باسيل. و«حزب الله» يدعم باسيلاً ويترك لبري تدوير الزوايا. هذا هو الرأي الأول المحلي أو الصغير.
أما الرأي الثاني الكبير فله علاقةٌ بالتوتر بين إيران وأميركا. وقد كان الحزب يُظهر حسن النية بإطلاق سراح نزار زكا من إيران، وبالتفاوض على ترسيم الحدود مع إسرائيل. أما الآن وقد تصاعد التوتر فقد ظهرت أزمة في التفاوض على الترسيم، وتصاعدت المعارك في سوريا وعليها، وقد تظهر عن قريب في غزة، كما ظهرت في اليمن مع هجمات «الحوثيين» على المملكة. وفي نظر أصحاب هذا الرأي فإنّ باسيلاً ازدادت هجماته على اللاجئين السوريين، وعلى السنة والدروز، وأظهر أكثر هو ووزير الدفاع اللبناني التأييد لـ«حزب الله» والتحزب لإيران، والتحزب للنظام السوري، والدعوة كما فعل رئيس الجمهورية لتحالف الأقليات.
وسواء أصحَّ هذا الرأي أو ذاك، فالمراقبون يرون أنّ باسيلاً سائر في حملاته، وقصده جمع العامة المسيحية من حوله، باعتبار أنه لا يمكنهم استعادة حقوقهم كاملةً إلاّ بتجاوز «اتفاق الطائف» والدستور بالممارسة كما جرى حتى الآن، وبالنصّ لاحقاً، كما دعا «حزب الله» منذ أكثر من عشر سنوات.
ويستطيع أصحاب هذه «السردية» أن يستشهدوا بالواقع الراهن. فالحياة السياسية مليئة بالأزمات. والمشكلات تتكاثر وتتفاقم من أزمة النفايات، إلى عجز الخزينة، وإلى الأزمة الاقتصادية، وإلى تصاعد الدَّين العام، وإلى استشراء الفساد وتصدع المؤسسات. النظام الذي صنعه «الطائف» إذاً غير صالح، ولا بد من نظامٍ جديدٍ يتطلب تعديلاً دستورياً. وبالطبع يستطيع أنصار النظام أن يقولوا إنّ «اتفاق الطائف» لم يُطبَّق، ولذلك فهو غير مسؤول. ويستطيعون القول: كل مظاهر التفلت والتأزم حدثت في هذا العهد، سواء لجهة تفاقم المشكلات، أو لجهة تعاظم الفساد. لكن علينا من جهةٍ ثانيةٍ الملاحظة أن «الطائف» لم يعد له أنصار أقوياء. فقد تفككت جبهة قوى (14 آذار)، وتركها كل الأطراف المسيحيين الأقوياء، بما في ذلك البطريركية المارونية التي حمت «الطائف» أيام البطريرك الراحل صفير.

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية