قبل تعيينه بأيام، وزيراً لخارجية الاتحاد الأوروبي، خَلَفاً لفيديريكا موغيريني، زارنا وزير الخارجية الإسباني، جوسيب بوريل، في الجامعة الأورومتوسطية بفاس، حيث أعطى كلمة رزينة ومؤثرة في احتفالية تخرج الدفعة الأولى من طلبة الجامعة في تخصصات عدة.
ونذكر هنا، أن آخر إسباني شغل منصب وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، هو خافيير سولانا (1999 -2009). بمعنى أن إسبانيا عادت، بعد عشر سنوات، إلى الخطوط الأمامية لمؤسسات التكتّل الأوروبي، وقد تم تعيين شخص مُعتمد ذي خبرة، لتولّي منصب حيوي في السياسة الخارجية والدفاع المشترك في عالم يعج بالفوضى واللايقين. وتأمل إسبانيا أن تكون خلفية بوريل سبباً لإضفاء ثقلٍ على هذا الدور، فهو سياسي مخضرم ورجل دولة ذو تجربة كبيرة، التحق بصفوف «حزب العمال الاشتراكي» (الحاكم حالياً) قبل نحو 45 عاماً، وانتُخب لعضوية البرلمان في عدة دورات، كما شغل منصب رئيس البرلمان الأوروبي بين عامي 2004 و2007.
في كلمته في احتفالية الجامعة، وقد ألقاها باللغة الفرنسية، تحدث بوريل عن مسيرته الطلابية كتقني ومهندس دولة تمكن من الدراسة في أعرق الجامعات الإسبانية، ووضح كيف يمكن للطالب أن يصل عبر سنوات من الجد والاجتهاد إلى ما يمكن أن يحقق رخاء الوطن والمنطقة، ثم أعطى توجيهات ونصائح لمن سيحمل لواء تسيير المؤسسات والشركات والشأن العام.
وقد لاحظت أن بوريل، سواء في تدخله أو عندما رافقناه من المطار إلى الجامعة، يتكئ على جدار فكري وأيديولوجي عقلاني في رؤيته وتعاطيه مع الأحداث السياسية في العالم، ووجدته محباً للأسرة المتوسطية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك وللإرث الحضاري والتاريخي والثقافي واللغوي الغني، الذي يجمع بين المغرب وإسبانيا. ونتذكر أنه عندما شهد المغرب حدثاً استثنائياً تمثل بزيارة البابا فرنسيس الأول، وبعد الزيارة الأولى التي قام بها للمغرب، البابا يوحنا بولس الثاني عام 1985، حرص جلالة الملك محمد السادس - كما جاء في خطابه الذي ألقاه بأربع لغات- على أن يعبر عن الرمزية العميقة، والحمولة التاريخية، والرهان الحضاري لهذا الحدث. فالموقع التاريخي الذي احتضن اللقاء، جمع بين معاني الانفتاح والعبور والتلاقح الثقافي، وشكل بحد ذاته رمزاً للتوازن والانسجام. فقد أقيم بشكل مقصود في ملتقى نهر أبي رقراق والمحيط الأطلسي، وعلى محور واحد يمتد من مسجد الكتبية بمراكش والخيرالدة بإشبيلية الإسبانية، ليكون صلة وصل روحية ومعمارية وثقافية، بين أفريقيا وأوروبا.
ألح الوزير، كباقي التدخلات، على النظر إلى المستقبل وعلى الإبداع المنشئ للتنمية، فلو اكتفى الإنسان بعملية إضاءة الشمعة فقط، دون النظر إلى البديل لما اهتدى إلى المصابيح الكهربائية ودخول الكهرباء في جميع مناحي الحياة. لذلك أقول، وقد خصصت العديد من مقالاتي الأخيرة لموضوع الجامعة والبحث العلمي وأهمية ذلك في أوطاننا، إن مواضيع من قبيل «الموجة الثالثة» و«المجتمع ما بعد الصناعي» و«مجتمع تكنولوجيا المعلومات» و«مجتمع التواصل» و«مجتمع اقتصاد المعرفة» و«القرية الكونية» و«الرأسمال الثقافي» و«مجتمع الشبكة» و«الطفرة التكنومعلوماتية».. توحي بالحالة التي وصلت إليها النظرة المستقبلية الصائبة للمجتمعات، وكلها تدل على ارتباط تلك المجتمعات «المستقبلية»، بعالم الإنتاج وسوق العمل وتوزيع الثقافة والفنون والعلوم والسلع والخدمات والمعلومات.. بالرأسمالية التي تتغذى منها، وذلك عبر وسائط الاتصال والمعلومات. وتتوقف تلك السياسات العمومية الرشيدة عند العلاقة بين التقنية والمجتمع، حيث إن للأولى انعكاساً مباشراً على مستقبل الفرد والجماعة، وعلى سير المجالات الاقتصادية والمالية والعسكرية والسياسية، بل والثقافية، في إطار الموجة الثالثة من الرأسمالية. كما أن التطورات العلمية، والحاجة إلى عقلنة وتدبير أقطاب دورة الإنتاج، ودراسة توقعات السوق المفاجئة وتداعياتها المباشرة، ومغادرة مهن ذات قيمة مضافة لفضاء المجتمع الرأسمالي الجديد، توحي بأن الدول التي ركبت هذه الموجة وضعت نفسها على الطريق الصحيح، وأن الدول التي لم تركب بعد قطار المستقبل هذا ستعاني أزمات على غرار الأزمة المالية التي عرفها العالم عام 2008، وإذا لم تستطع الدول ابتكار منتوجات المستقبل المولدة لمهن الغد، وتحضير وإعداد الأجيال القادمة لشغل وظائف المستقبل، فستفقد فرصاً كثيرة، وهذا في أحسن التقديرات!
*أكاديمي مغربي