ربما يسجل التاريخ أن انتخابات رئيس بلدية إسطنبول كانت بداية تغيير كبير في تركيا. قد لا تكون معالم هذا التغيير واضحة تماماً اليوم، لكن المؤكد أن تركيا لم تعد، بعد هذه المعركة، كما كانت قبلها. ولذا، ربما يكون السؤال الأكثر أهمية اليوم هو عن كيفية تعاطي الرئيس رجب طيب أردوغان مع وضع جديد لم يألفه، منذ وصول حزبه «العدالة والتنمية» إلى الحكم عام 2002، أي وجود رئيس بلدية معارض في إسطنبول، وانتزاعه المقعد الذي جلس عليه هو شخصياً قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، ثم رئيساً للجمهورية في نظام شبه برلماني قام بتغييره إلى رئاسي فردي عام 2017. فهل يعود أردوغان إلى الواقع الذي أخذ في الانفصال عنه في السنوات الأخيرة، ويراجع أداءه، داخلياً وخارجياً، لتجنب مزيد من الخسائر، أم يواصل المضي في الطريق التي أدت إلى هزيمة مرشحه في إسطنبول مرتين في غضون ثلاثة أشهر؟
خسر مرشح أردوغان في إسطنبول عندما أُجريت الانتخابات البلدية في مارس الماضي، لأسباب في مقدمتها الإصرار على إنكار أن التراجع الحاصل في الوضع الاقتصادي، والتخبط على المستوى الإقليمي، يعودان إلى أخطاء بلغت ذروتها في الأعوام الأربعة الأخيرة، وليس إلى مؤامرات على تركيا ورئيسها.
لم يكن تراجع أداء الاقتصاد التركي، وصولاً إلى اهتزاز الليرة، بحد ذاته سبباً في خسارة الحزب الحاكم في أهم المدن الكبرى، وعلى رأسها إسطنبول. فلا يؤثر مثل هذا التراجع سلبياً في اتجاهات الناخبين ما دامت هناك جهود لمعالجته. وقل مثل ذلك عن حدوث أخطاء في السياسة الخارجية، وخاصة حين تكون الظروف صعبة ومعقدة، كما هو الحال في منطقة الشرق الأوسط.
غير أن ما يؤثر في اتجاهات الناخبين، ويؤدي إلى تصويت عقابي ضد نظام حكم، هو شعور قطاع متزايد من الناخبين بأن المشكلة تتجاوز ارتكاب أخطاء يمكن تصحيحها، وتمتد إلى إنكار وجودها، أو محاولة التنصل منها عبر خطاب المؤامرة.
وكان الاتجاه إلى تحميل المسؤولية عن تراجع الاقتصاد إلى متآمرين على تركيا، أحد أكثر المؤشرات الدالة على إنكار أخطاء باتت ظاهرة. وبسبب هذا الإنكار، أخذ الاقتصاد التركي يتحول من ورقة بين يدي أردوغان وحزبه، إلى ورقة تُهدِّد استمرارهما في الحكم. فقد كان انتعاش الاقتصاد في الفترة التالية لوصولهما إلى السلطة، أحد أهم قوتهما في العقد الماضي. ومن الطبيعي أن يصبح الانكماش الاقتصادي، وما يقترن به من ازدياد في معدلات التضخم والبطالة، أحد أهم العوامل التي تضعفهما، وتثير من ثم التساؤل عن مستقبل تركيا، في حال استمرار الاتجاه إلى إلقاء اللوم على متآمرين في الداخل، وفي الخارج.
لم يكن قد بقي على موعد الانتخابات المُعادة في إسطنبول إلا أسبوع واحد عندما صدر تقرير عن مؤسسة موديز للتصنيف الائتماني، متضمناً خفض تصنيف الدَّين السيادي لتركيا بسبب «استمرار تآكل ثقة المستثمرين في قوة المؤسسات وفعالية الأداء»، وتحذيراً من أن تدخل البنك المركزي لدعم الليرة يضر الموقف الائتماني للبلاد. وبدلاً من أن تراجع المؤسسات المعنية في تركيا أداءها، شنت هجوماً حاداً على وكالة موديز، واتهمها نائب الرئيس فؤاد أوقطاي بالتآمر على بلاده، عشية انتخابات مهمة.
ومن شأن مثل هذا الموقف، الذي ينطوي على مواصلة إنكار الواقع، أن يُضعف ثقة قطاع متزايد من الناخبين في أداء نظام الحكم. وكان قرار إعادة انتخابات إسطنبول، التي خسرها مرشح أردوغان في مارس الماضي، مؤشراً آخر على أنه لا يهدف سوى إلى البقاء في السلطة. فالمعتاد أن يتهم معارضون الحكومات في بلادهم باتخاذ إجراءات تهدف لمنع فوزهم في الانتخابات، لكن ليس مألوفاً أن يحدث العكس.
ولذا، فبعد أن خسر مرشح أردوغان في مارس الماضي بفرق 13 ألف صوت فقط، وصل هذا الفرق إلى نحو 750 ألف صوت في 23 يونيو، أي بزيادة قياسية خلال أقل من ثلاثة أشهر.
وعندما يحدث هذا في إحدى أهم قلاع أردوغان وحزبه، يصبح منطقياً التساؤل عما إذا كان بإمكانهما أن يعودا إلى الواقع في وقت مناسب. لقد أعلن أردوغان، عقب انتخابات مارس، أنه «لا يوجد ما يقلقنا، وسنمضي قدماً في طريقنا متفائلين بأعمال أخرى». فهل تكفي نتيجة الانتخابات المُعادة لإثارة قلقه، ومن ثم الإقرار بالواقع قبل فوات الأوان؟