من أهم الإشكاليات التي تواجه الثقافة والبناء الثقافي للمجتمع، هي إشكالية تبسيط الثقافة حتى تصل إلى الناس وإلى المجتمع، وهنا يبرز دور المثقف في أن يقرب مفهوم الثقافة لأفراد المجتمع.
لماذا دائماً ليس هناك إقبال من الناس على المواضيع الفكرية الجادة والعميقة التي تُطرح، في حين نجد المواضيع البسيطة عليها إقبال كبير؟ ويقودني هذا السؤال إلى سؤال كاشف: هل هناك فجوة بين المثقف والمجتمع؟
نعم هناك فجوة، وهذه الفجوة جزء من أسبابها المثقف نفسه، لأنه لا يستطيع أن يصل بإنتاجه الفكري إلى مجتمعه، فعلى سبيل المثال كتاب قصة الفلسفة لـ«ويل ديورانت» الذي يحكي تاريخ الفلسفة، غالباً لا يقرأه إلا المتخصصون والنخب، في حين رواية «عالم صوفي» لجوستاين غاردنر التي تقدم الفلسفة في صورة رواية مشوقة تُرجمت لأكثر من خمسين لغة، وكل فئات المجتمع المهتمة بالقراءة قد قرؤوها، لندرك أننا نحتاج إلى أن نقدم الثقافة في إطار أكثر جذباً للإنسان العادي، لنرتقي بعقله ونزيد مستوى الوعي لديه من خلال عمل المثقف.
الإشكالية الحقيقية تكمن في المثقف غير القادر على فهم لغة مجتمعه، لذلك نجد هناك غربة كبيرة بين المثقف والمجتمع يمكن التخلص منها إذا استخدمنا لغة قادرة على توصيل أفكارنا للمجتمع، لذلك لابد أن نبحث وراء ثوب جديد نضع فيه الفكر والثقافة، حتى نؤثر في المجتمع.
في «معرض أبوظبي الدولي للكتاب» هذا العام، لاحظت أن الروايات وكتب التنمية الذاتية، هي أكثر الكتب مبيعاً في المعرض لأن لغتها هي لغة الناس، في حين نجد كتب بعض المفكرين الكبار لا يباع منها إلا نسخ محدودة، لأن الكثير من هذه الإنتاجات الفكرية تقدم بلغة صعبة ومتعالية أحياناً، تجعل الناس تبتعد عن الثقافة العميقة والقراءة في القضايا الفكرية الكبري، بالتأكيد لابد أن نستثني من ذلك الكتب ذات الطابع الأكاديمي والموضوعات التي تهم النخب الثقافية، ولكن الهم الأكبر هو الإنسان العادي الذي نحتاج أن نصل إليه، ونرفع من وعيه، لذلك جزء مهم من عمل المثقف أن يحبب الناس بالثقافة والقراءة والبحث عن المعرفة.
كما أن دور المثقف الحقيقي أن يغير توجهات الناس، وأن يرفع من وعي المجتمع من خلال الجذب في أسلوب طرحه لأفكاره، وأن يقترب من مجتمعه وحتى يكون فاعلاً ويغير وينجز، وهذا لا يعني تسطيح المثقف لفكره، فقط نحتاج أن يوضع هذا الفكر داخل إطار يستطيع كل أفراد المجتمع استيعابه ويرتقي بهم ويرفع الوعي لديهم. فإذا لم يستطع المثقف ذلك فما هي الفائدة من وجوده، فهو تماماً مثل الطبيب الذي لا يعالج.
هل عمل المثقف أن ينجز الكتب لنضعها على الرفوف، وكتابة مقالات لا يقرأها أحد، وطرح مواضيع لا تهم الناس، فيتحول إلى شاهد لا أثر له على المجتمع، ويصبح المجتمع يتندر حين لا يفهم ما يقال (كلام مثقفين لا نعرف فيه) ليس هناك أصدق من تلك الجملة تعبيراً عن الفجوة التي بين المثقف والمجتمع.
ولذلك في ختام مقالي أطرح عليكم مبادرة سبق وأن طرحتها في محاضرتي حول نفس الموضوع بـ«معرض أبوظبي الدولي للكتاب» هذا العام، وهي مبادرة موجهة إلى القائمين على الثقافة من مؤسسات الدولة المعنية بالشأن الثقافي والمؤسسات الثقافية الخاصة وإلى كل مثقف، بتشكيل خلية عمل تقوم بتقديم أفكار عملية حول كيفية تقديم ثقافة جاذبة وملامسة لحياة الناس بلغة يفهمونها وتتناسب مع واقعهم وتطلعاتهم، ونقدم من خلال ذلك خطة عمل لكي يكون أمامنا ثقافة جديدة تجذب عدداً كبيراً من الشرائح، التي كانت لا تقترب من قراءة الكتب وحضور المحاضرات والندوات الثقافية الحقيقية، وهذه المبادرة أضعها بين أيديكم وأدعو الجميع للمشاركة.. معاً نرتقي بوعي مجتمعاتنا لكي نكون صناع معرفة لا مستهلكين فقط للمعرفة.