تحلّ متواليات «الثورة الصناعية الرابعة» وتفاعلاتها الاجتماعية والسياسية بسرعة أكثر مما تبدي الأمم (كثير منها) اهتماماً واستعداداً كافيين للاستجابة والاستيعاب، وإذا كانت التقنية تهبط وتعمل وبلا استئذان، فإن الاستجابات ليست تلقائية ولا هي متشابهة، هكذا تتحول الأسواق والأعمال تبعاً للتقنيات والموارد الجديدة، لكن المؤسسات الاجتماعية والتنظيمية والإرشادية يغلب عليها التمسك بالوضع القائم والدفاع عنه، ومحاولة مواجهة التحولات ومنعها. وإذا كان مفهوماً التخوف على القيم والإنجازات والمبادئ والمصالح التي تحميها المؤسسات وتواضعت عليها الأمم، فإن الدافع نفسه يدعو للتأمل العميق فيما يمكن أن تحدثه بل ما أحدثته بالفعل التحولات التقنية.
ربما يكون مصطلح «تكنولوجيا المعنى» أفضل ما يصف التكنولوجيا الجديدة، إذ أنه ببساطة يختزل الاتجاه الأساسي للتكنولوجيا الجديدة ثم التحديات الحقيقية الناشئة، فالتكنولوجيا الحاسوبية والشبكية وما بعدها تحاكي الإنسان، وتؤدي معظم إنْ لم يكن جميع ما كان يعمله بنفسه، إنها لا تحلّ فقط مكان الإنسان في الأعمال والمؤسسات، لكنها أيضاً تنجز ما كان يتميز به الإنسان على الآلة، وما كانت لا تستطيع أن تؤديه، هكذا فقد كرّس الإنسان لنفسه فكرة مركزية هي «المعنى» كالتفكير والتحليل والخيال والشعر والذكاء والتعلّم واتخاذ القرارات وتصميم السياسات والتوقعات، وكثير من الأعمال والمهن العادية والمتقدمة أيضا، كالتعليم والطب وقيادة الطائرات والقطارات والاستشارات والتحليل والتصميم والإعلام والمراقبة والأمن والدفاع، وبكفاءة مضاعفة، هكذا فإن الإنسان يواجه تحدياً حقيقياً في أهميته ومعنى وجوده، أو يجب أن يبحث عن معنى جديد يتميز به، ولا تستطيع التكنولوجيا الجديدة أن تفعله.
الحديث عن هيمنة التكنولوجيا على المعنى ليس توقعاً مستقبلياً ولا فكرة نظرية، لكنه أمر واقع يتشكل أسرع مما يتوقع معظم الناس، وربما يكون العالم بحلول منتصف القرن الحالي عالماً آخر مختلفاً في تنظيمه ومؤسساته وأعماله وأفكاره وقيمه، ويمكن في هذه المساحة أن نفكر بمجموعة من القضايا والأفكار العملية والمطروحة في الفضاء العام.
ماذا تؤدي إليه الطائرات المسيرة من دون طيار؟ ما وجهة الجيوش والصراعات؟ وماذا ستكون وظيفة وأعمال الطيارين؟ وكيف سيكون تنظيم الجيوش، وما دورها؟ وبالطبع فإنها لا تقتصر على الجيوش والحروب ولكنها تمتد إلى النقل والشحن والبريد وخدمات التوصيل، كيف ستكون بعد ذلك وجهة الأعمال في النقل؟ وكيف تعمل إدارات الحدود والجمارك؟
وفي تشغيل منصات التعليم والتطبيقات التعليمية والتدريبية، والتي صارت متاحة وممكنة بتكاليف أقل بكثير من تكاليف المدارس والجامعات والمراكز التعليمية والتدريبية، وبإمكانيات في المحتوى والمهارات يستوعب معظم العلوم والمعارف والتخصصات، إلى أين تمضي المؤسسات والمهن التعليمية؟ وكيف يجري تنظيم التعليم والمهن والإجازة بممارستها؟ هل ستظل العلاقة بين السلطات السياسية والتعليم والمؤسسات التعليمية كما هو الحال في «الدولة المركزية»؟ لقد بدأنا نشهد بالفعل هذه التحديات التي تواجه المؤسسات الإعلامية والإرشادية، حيث تحول الإعلام إلى فضاء مفتوح للتلقي والمشاركة بلا حدود ولا تنظيم، وتتشارك اليوم المؤسسات الإعلامية والإرشادية التقليدية مع عدد هائل لا يحصى من المنصات التي تقدم بسهولة ومن غير تكاليف ومن غير تنظيم قانوني أو سياسي ما تشاء من محتوى بالصوت والكلمة والصورة وبجميع اللغات ومن وإلى جميع أنحاء العالم، ماذا تفعل الأمم في إدارة وتنظيم هذا الفضاء؟ وكيف تحمي نفسها من الإشاعات والأخبار المزيفة وكيف توفر لمواطنيها وللعالم المعلومات والمعارف الضرورية واللازمة للإحاطة والعمل والتعليم والتدريب؟.. والمعنى أيضا!
وتلجأ الشركات والأعمال والمؤسسات التجارية بمختلف حجمها ومواردها على حماية مصالحها باستخدام التكنولوجيا الجديدة مشاركة ومنافسة أحيانا للمؤسسات السيادية للدول، فشركات التأمين والبنوك على سبيل المثال تنشئ أنظمة للتحري والحماية والاستعلام، ولم يعد سراً ولا مستهجنا أنها تملك معلومات كثيرة وهائلة لا تقل إن لم تتفوق عن مؤسسات الدولة الأمنية والتنظيمية، وأتاحت البيانات الضخمة والهائلة على الشبكة الفرصة لشركات مثل «فيسبوك» وغيرها فرصاً وقدرات كبرى للتأثير في الاتجاهات والأفكار أو في توظيف المعرفة والمؤشرات الهائلة والدقيقة في أعمال ومصالح سياسية واقتصادية، ولم تعد المنافسة التجارية والانتخابية والسياسية تعمل بالقواعد التقليدية التي تواضعت عليها الأمم منذ نشوء الرأسمالية والاقتصاد الصناعي في القرن الخامس عشر الميلادي.
على المستوى التجاري والاقتصادي، فإن تكنولوجيا المعنى تعمل ببداهة وفق قاعدتين، هما الاستغناء عن العمالة البشرية ما دام ممكناً للآلة أن تفعل ذلك، ونشوء أعمال وفرص جديدة أنتجتها التكنولوجيا نفسها، وقد يبدو ذلك يعمل تلقائيا، لكنه مرتبط بالسياسات والمؤسسات القائمة مستقلة عن هذه المتوالية، ذلك أن التكنولوجيا ومنذ الثورة الصناعية تنمو وتعمل بشكل رئيسي في الأسواق والشركات وبنسبة أقل في مؤسسات الدولة التعليمية والبحثية، أو أن هذه المؤسسات صارت تابعة لاتجاهات السوق ومصالحه.
*كاتب وباحث أردني