عرف القدماء والمحدثون النقد الأدبي؛ فالعرب أهل شعر وبلاغة، والشعر ديوانهم والبلاغة صناعتهم. وقد وضعوا المعلقات السبع على أستار الكعبة، ودخل الوحي إلى وعيهم ببلاغته وأسلوب بيانه المعجز، فتأثروا به كنص أعجزهم الإتيان بمثله. لا يُفهم الوحي إلا بالشعر، كما قال عمر: «عليكم بديوان جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم». وصاغ عبد القاهر الجرجاني نظرية النظم في «أسرار البلاغة»، وطبقها في «دلائل الإعجاز». وظهر النقد الحديث في مدرسة أمين الخولي (خلف الله، شكري عياد، نصر حامد أبو زيد) استمراراً للنقد القديم، فظهرت عدة دراسات عن التصوير الفني في القرآن الكريم، والفن القصصي في القرآن، ومشاهد القيامة في القرآن.
وظهر نوع جديد من النقد الأدبي استمراراً للوافد الغربي، في النقد الأدبي الاجتماعي (عبد المحسن طه بدر)، والنقد البنيوي (جابر عصفور)، والنقد الأسلوبي القائم على علم اللسانيات الحديث (نصر حامد أبو زيد). وازدهر النقد الأدبي المعاصر في شتى أرجاء الوطن العربي باجتماع النقدين، القديم والجديد، الموروث والوافد. وتوالت الأجيال وتفاعل الرافدان في العديد من مجلات النقد الأدبي المتخصصة. وأصبحت مدرسة النقد الأدبي الحديث (طه حسين، العقاد، هيكل) حصيلة تفاعل هذين الرافدين، قراءة «الوسيلة الأدبية» للمرصفي قراءة جديدة، ورد الاعتبار لـ«الشعر الجاهلي».
وساهم النقد الأدبي في النهضة العربية المعاصرة، بالجرأة على القديم، واستخدام أدوات الجديد، إذ لا فرق بين النقاد والمبدعين والمفكرين والمصلحين، فقد كانوا جميعاً من رواد النهضة.
ثم نشأ جيل رابع يحول النقد الأدبي إلى نقد ثقافي؛ فالنص الأدبي جزء من النص الثقافي، والأدب أحد جوانب الثقافة، والجمال أحد عناصر الفكر. وتم التحول من الصورة إلى القضية، ومن البلاغة إلى الاجتماع، ومن النخبة إلى الجمهور، ومن الجامعة إلى الصحافة، ومن العلم إلى الإعلام. الأدب صناعة الأدباء، والثقافة همّ المثقفين. يقوم الأدب على تصور للعالم ينتج عن الثقافة، ولا فرق بين التاريخ الأدبي والتاريخ الثقافي، بل كلاهما مظهران للنقد الاجتماعي؛ فالأدب تصور للمجتمع، والنقد الأدبي الاجتماعي هو الكاشف لهذه العلاقة بين النص الأدبي وواقعه المجتمعي. علم اجتماع الأدب مقدمة لعلم اجتماع الثقافة، والتحليل الاجتماعي يتضمن التحليل السياسي، إذ الظاهرة الاجتماعية ظاهرة سياسية، والظاهرة السياسية ظاهرة اجتماعية.. لكن الثقافة أكثر تشابكاً من الأدب، وهي تتجاوز البعد الجمالي إلى البعد الفكري، وتضع الجزء في الكل، والفرع في الأصل.
والنقد الثقافي أعم من النقد السياسي، وهذا الأخير هو السجال بين القوى السياسية من أجل الوصول إلى السلطة السياسية في الحزب أو في المجتمع، في حين أن النقد الثقافي هو تحليل التصورات الثقافية للعالم، أي الثقافة السياسية التي تقوم عليها الممارسة السياسية. إنه نقد التصورات الهرمية للعالم التي تمثل أساس توزيع الناس بين الأعلى والأدنى، أي أساس المجتمع البطريركي. ونقد التصور الرأسي للعالم، وهو أساس المجتمع الرأسمالي، ممارسة لصالح التصور الأفقي لغرس مفهوم التقدم.
ويدخل النقد الثقافي في نقد أعم هو النقد الحضاري. وفي اللغات الأجنبية يستعمل لفظ Cultural للنقدين معاً. النقد الحضاري هو النقد الثقافي من منظور أعم. فالثقافة وعي تاريخي، وتراكم من الماضي في الحاضر. هي رؤى للعالم تعبر عن ثقافات الشعوب وخصائصها. فهناك رؤى للعالم يغلب عليها الطابع الحسي التجريبي (البريطاني)، وأخرى يغلب عليها الطابع العقلي التجريدي (الألماني)، وثالثة يغلب عليها الطابع الوجداني (الفرنسي).. وهي تعميمات تنقصها الدقة أحياناً.
هي إذن أربع حلقات متداخلة من الأصغر إلى الأكبر، من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي إلى النقد الاجتماعي إلى النقد الحضاري. تشارك في مركز واحد هو النص وتنتهي إلى دائرة واحدة هي الواقع. ويمثل النقد الأدبي، على سبيل المثال لا الحصر، عبد القاهر الجرجاني، والنقد الثقافي ابن رشد، والنقد الاجتماعي ابن خلدون، والنقد الحضاري إدوارد سعيد.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة