يبدو أن «العولمة»، أصبحت في مراحلها الأخيرة، بعدما فقدت «عصرها الذهبي» منذ الأزمة المالية عام 2008 والتي انتشرت تداعياتها السلبية، فضلاً عن تأثيرها على الاقتصاد العالمي، وهي مستمرة ربما لعدة سنوات قادمة. ونظراً للتباطؤ الاقتصادي الذي أثر بالتبعية على إجمالي الإنفاق الاستثماري، هبطت الاستثمارات العالمية مع انكماش ملحوظ في الاستثمارات النفطية، ما ساهم بزيادة الضغوط المالية وتراكم الديون، مع تراجع معدلات النمو وانخفاض التضخم، نتيجة ضآلة الإنفاق الذي ينذر بدوره بزيادة عدد العاطلين عن العمل، بما يهدد السلم الاجتماعي.
وبلغة الأرقام، ووفق تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، كان متوسط نمو تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في تسعينيات القرن الماضي نحو 20 في المئة سنوياً، وفي الفترة 2000 – 2007 تراجع إلى 8 في المئة، ولكن التراجع الكبير حصل في السنوات (2008 – 2018) عندما سجل أكثر قليلاً من الواحد في المئة. ولوحظ أنه هبط في العام الماضي بنسبة 13 في المئة إلى 1.3 تريليون دولار، متأثراً للسنة الثالثة بالحروب التجارية، خصوصاً بين واشنطن وبكين، علماً أنه كان بلغ نحو تريليوني دولار عام 2015. واللافت أن الولايات المتحدة حافظت على المرتبة الأولى عالمياً، بتلقي استثمارات بنحو 252 مليار دولار، على رغم الهجرة المعاكسة للرساميل الأميركية التي تبحث عن موطئ قدم لها خارج بلادها، هرباً من النسبة المرتفعة للضرائب على الأرباح التي فرضها قانون الإصلاح الجديد.
وفي ظل تباطؤ النمو وركود اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي (باستثناء ألمانيا)، هناك عوامل عدة رئيسية تحدد مسار اتجاهات خريطة الاستثمارات وامتداداتها الإقليمية والدولية. ولعل أهمها الظروف الاستثنائية التي تمر بها بعض الدول والمخاطر غير المسبوقة الناتجة عن الاضطرابات الأمنية والسياسية والتي أدت إلى هروب الرساميل، مثل روسيا، نتيجة تأثرها بالمقاطعة الأميركية والأوروبية، وكذلك المنطقة العربية التي تشهد بعض دولها حروباً متعددة ومتنوعة، وذلك تنفيذاً للمبدأ القائل بأن «رأس المال جبان ويفتش دائماً عن الاستثمار الآمن والأرباح المضمونة».
أما العامل الثاني المهم أيضاً، فهو تطور التحالفات بين التكتلات الاقتصادية المتنافسة، خصوصاً في ضوء ترقب نتائج مسيرة عهد الرئيس دونالد ترامب واستراتيجية الولايات المتحدة في علاقاتها المالية والتجارية والاستثمارية مع دول أوروبا، وكذلك تطور مرحلة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست» وتداعياتها السلبية والإيجابية. في المقابل تفعيل دور مجموعة دول «البريكس» التي تضم كلاً من روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، بالقيام باستثمارات ضخمة عن طريق بنك الاستثمار الذي أصبح يضم 100 عضو بانضمام ثلاث دول أفريقية مؤخراً (بنين، جيبوتي، ورواندا)، وهو يهدف إلى وضع استراتيجية استثمارية تمكنه من شراء حصص في كبرى الشركات العالمية وتمويل مشروعات تكنولوجية في مختلف دول العالم. وتبرز أهمية النفوذ السياسي لهذه المجموعة بقيادة روسية- صينية لتواجدهما الوازن في مجلس الأمن الدولي، مع العلم أن الدول الأعضاء تمثل 78 في المئة من سكان العالم و63 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما تستأثر بنصف الاحتياطي العالمي من العملات الأجنبية والذهب، وقد وافق البنك منذ بدء عملياته في 2016 على 46 مشروعاً في 18 دولة عضواً بقيمة إجمالية بلغت 8.5 مليار دولار، ورسخ نفسه كجزء من النظام الدولي القائم.
في الوقت نفسه، وفي خضم التطورات المرتقبة، تستعد المنطقة العربية لتكون محوراً أساسياً لاستقطاب الاستثمارات الخارجية لتمويل إعادة الإعمار في أربع دول عربية (العراق، سوريا، ليبيا، واليمن)، ويتطلب ذلك استثمار ما يفوق 800 مليار دولار. ويقدر عدد الشركات الأجنبية العاملة في المنطقة بـ 7000 شركة، وبنسبة 8.5 في المئة من إجمالي عدد الشركات المستثمرة خارج حدودها في العالم والمقدر عددها بأكثر من 81650 شركة.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية