كشفت المفاوضات حول الاتفاق السياسي والإعلان الدستوري في السودان، أن الخلافات بين القوى المنضوية، تحت تحالف «قوى إعلان الحرية والتغيير»، يمكن أن تهدد تماسكه حال تصاعدها، أدى هذا التحالف دوراً بالغ الأهمية، فور تأسيسه في لحظة بالغة الدقة في تاريخ السودان، كان ذلك في اليوم الثالث عشر بعد بداية الاحتجاجات الشعبية الأولى، التي ركزت على مطالب اقتصادية، وكان رفع أسعار الخبز دافعها الأساسي، لكن أفقها السياسي لم يكن عصياً على الإدراك.
وُقع إعلان تحالف الحرية والتغيير، إذن، في ظرف استثنائي، إذ كان المحتجون في حاجة إلى قيادة تعبر عن مطالبهم، وضم معظم القوى المدنية السودانية، فقد تكون من عدة تكتلات سياسية لم تكن العلاقة بين بعضها على ما يرام قبل بدء الاحتجاجات، وهي «الإجماع الوطني»، و«نداء السودان»، و«التجمع الاتحادي»، إلى جانب «تجمع المهنيين» الذي كان دوره الأكثر وضوحاً في دعم الاحتجاجات في الأيام السابقة على إعلان ذلك التحالف الجديد.
وهذا تجمع حديث النشأة يضم نخباً مهنية وجامعية بُدئ في تأسيسه قبل سنوات، ولم يُعلن إلا في أواخر 2018، أما الأطراف الأخرى فظهرت في فترات مختلفة بين عامي 2009 و2018، كان تكتل «الإجماع الوطني» أقدمها، إذ يعود إلى أواخر عام 2009، عندما التقت أربعة أحزاب معروفة (الأمة، والشيوعي، والمؤتمر الشعبي، وحركة تحرير السودان – قطاع الشمال)، ومعها عدد أكبر من الأحزاب الصغيرة، لتأسيسه.
وبعد نحو خمس سنوات، أُعلن قيام تكتل «نداء السودان»، بعد اجتماع ضم طيفاً واسعاً من المعارضة، وعُقد في أديس أبابا في ديسمبر 2014، ولم يكن واضحاً في البداية هل سيعمل هذا التكتل بالتوازي مع سابقه «الإجماع الوطني»، أم سيحل محله سعياً إلى توحيد القسم الأكبر في المعارضة السودانية، وظلت العلاقة بينهما ملتبسة في كثير من الأحيان، فقد حضرت بعض أحزاب «الإجماع الوطني» اجتماعات عقدها «نداء السودان»، وأثار عدم وضوح العلاقة بين التكتلين خلافات تحول أحدها إلى أزمة في تكتل «الإجماع الوطني» في سبتمبر 2016، إذ قررت هيئته العامة تجميد عضوية خمسة أحزاب فيه، لكونها شاركت في اجتماعات «نداء السودان»، واتخذت قرارات منفردة، وردت هذه الأحزاب بإعلان انسحابها منه.
غير أن المشكلة، لم تكن في مواقف تلك الأحزاب تحديداً، بل في ضبابية العلاقة بين تكتلين جمعتهما قواسم مشتركة كثيرة، لكنهما عجزا عن تنظيم العلاقة بينهما، بسبب الأمراض السارية في صفوف الأحزاب العربية عموماً، وليست السودانية فقط، وربما كانت هذه الأمراض، وأهمها كثرة الخلافات والانشقاقات، أحد العوامل الأساسية التي دفعت مجموعة من المهنيين إلى تشكيل تجمع بعيداً عنها.
لكن الأجواء التي خلقتها الاحتجاجات الشعبية، وبدت مختلفة عن أي تحركات سابقة في الشارع، أتاحت تقريب ما بقي بعيد المنال لسنوات، إذ التقت التكتلات الحزبية وتجمع المهنيين في الأول من يناير الماضي لتأسيس تحالف عريض تصدر المشهد في الفترة التالية، واستطاع التحالف، الذي جمع هذه التكتلات وتجمع المهنيين، المحافظة على تماسكه، والاستمرار بعد أن تدخلت قيادة الجيش وعزلت البشير، لسببين؛ أولهما اتفاق أطرافه على أن الهدف الأساسي الذي جمعها لم يتحقق إلا جزئياً، لأن عزل البشير لا يكفي لإنهاء نظامه الذي تغلغلت عناصره في مفاصل الدولة والمجتمع. والثاني أن المفاوضات، التي أجرتها مع المجلس العسكري الانتقالي، بدأت حول ترتيبات إجرائية تتعلق بتحديد هياكل الحكم في الفترة الانتقالية، ونسبة تمثيل العسكريين والمدنيين في المجلس السيادي، ولذا، لم يكن صعباً أن تتفق أطراف التحالف على مواقف موحدة تجاه هذه الترتيبات.
لكن الخلافات بدأت في الظهور عند توقيع الاتفاق السياسي، بالتوازي مع التفاوض حول الإعلان الدستوري الذي يتضمن القضايا الأصعب المتعلقة بطابع النظام السياسي الانتقالي، وتوزيع الاختصاص بين المجالس الثلاثة المتفق عليها (السيادي والوزاري والتشريعي).
وعندئذ، صار السؤال مطروحاً عن قدرة التحالف المدني على الصمود والمحافظة على تماسكه حتى يجتاز السودان أزمته، صحيح أن أي تحالف من هذا النوع مؤقت. لكن الوقت ما زال مبكراً، وتفكك هذا التحالف لا يُضعف القوى المدنية فقط، بل يدفع السودان في منزلق خطير، وليت من يتخذون المواقف الأكثر تشدداً، ويزايدون على حلفائهم، يعرفون أن الانقسام قد يجعل ما لا يقبلونه اليوم أقل وطأةً مما سينتج عن تفكك القوى المدنية في السودان.

*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية