طبع الموسوعي السعودي الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري (77 عاماً) بصمته الخاصة في تاريخ المكتبة السعودية، ليس بوصفه عالماً متبحراً بالعلوم الدينية فحسب، وإنما أيضاً لموسوعيته المذهلة في فنون شتى.
في الفقه، اختار المذهب الظاهري، إعجاباً واتباعاً للإمام ابن حزم الأندلسي الظاهري (ت 1064).
عمل ابن عقيل على مؤلفاتٍ مشهود لها بالرصانة والتأصيل، حتى كتب عنه جارُ زاويته في «المجلة العربية»، الراحل غازي القصيبي (ت 2014): «هل هناك أكثر شفافية من رجل يعلن أنه (ظاهري المذهب)، في مجتمع لم يكن يسمع بالمدرسة الظاهرية؟ وهل هناك أكثر شفافية من إنسان يتحدث عن نواحي ضعفه بإسهاب لا تظفر به نواحي قوته وتميزه؟ وهل هناك أكثر شفافية من رجل يتحدث عن أخطائه بثقة مفرطة وكأنها منجزات؟ قال لنا الشيخ الوقور، في شذرات هنا وهناك، من كتب وكتيبات مختلفة عن حياته أشياء لم نألف سماعها من شيخ وقور! هناك أمنية أسوقها على استحياء إلى علامتنا الشفاف... متى تصدر لنا قصة حياتك كاملة في مجلد واحد.. شفّاف».

أبو عبد الرحمن العالم الموسوعي أثمرت اهتماماته بالشريعة عن مؤلفاتٍ ذات لونٍ خاص، باعتباره ممن جمع بين العلوم الدينية بكافة تشعبها مع اللغة العربية، بالإضافة لاطلاعه المبكر والدقيق على الفلسفة الحديثة، إذ كتب عن الفيلسوف الفرنسي ديكارت، في وقتٍ ربما لم يكن أحد يعرف فيه عن ديكارت غير اسمه. وإذا كتب في الأدب، ظننته لا يحسن سواه من تبحّره فيه، ثم تجده ينتقل مساجلاً في علم الكلام، ثم طارحاً شرحه لنظريةٍ فلسفية، فشارحاً لمسألة فقهية، بعرض آراء الفقهاء من كل مذهب وعصر فيها، ثم محققاً لحديث في صحة سنده وثقة رواته.
من النادر أن تعثر على علّامة بهذا الزخم المعرفي المتنوع، فهو عندما يمر في كتابته بمسألة ما لا يتركها إلا وقد حبّر فيها عشرات الصفحات بعمق وجودة.

وصفه الوزير السعودي الراحل، الدكتور عبدالعزيز الخويطر (ت2014)، بعباراتٍ عميقة الدلالة: «أبو عبد الرحمن بن عقيل كاتب ذو أسلوب جذاب، وفكر عميق، وآراء متجددة، مع عمق في البحث، ومتابعة مستمرة، يفاجئك بالخروج عن المألوف، ويضعك في موقع تحمده، وتقول: كيف لم أتنبه لهذا، يسير في أحاديثه على سجيته، لا يتكلف، واستطراده مقبول، بل ومقدر».

كتب صاحبنا عشرات المؤلفات في الشريعة، والفقه الظاهري، وعن ابن حزم، ومن لم يقرأ كتابه «التباريح» فقد حرم متعة الاستمتاع بكنز من الكنوز الأدبية فهي: «سيرة ذاتية، ومذكرات، وهجّيري ذات، واستعراض فنون وعلوم بسلاسة وأناقة». تباريح أبي عبد الرحمن بن عقيل، كتاب أشعل سجالاتٍ أدبية رفيعة، عبرت عن فخامة التداول الثقافي وقتها، كما يذكر ذلك الأستاذ الأديب المؤدب، حمد القاضي، الذي كان رئيس تحرير «المجلة العربية»، التي يكتب فيها أبو عبدالرحمن بن عقيل وغازي القصيبي، والمجلة نفسها شهدت ما عُرف لاحقاً بـ«معركة التباريح»، وأقطابها أولئك الكبار.

لم ينس ابن عقيل جمال الحياة، فهام بنجاة الصغيرة، حتى كتب عنها مؤلفاً حول شخصها، وغنائها، وفنها، والأهم... صوتها، يوم كان يرى إباحة الغناء امتداداً للمذهب الظاهري، وإن كان تراجع عن ذلك لاحقاً.

يعتبر أبو عبدالرحمن النقاش الحيوي أساس الوصول للنتيجة المطلوبة، وحين اختلف مع عبدالله القصيمي (ت 1996)، قرر مناظرته بالحجة والبرهان، وأثمر ذلك كتابه الشهير: «ليلة في جاردن سيتي»، وفيه سرد تفاصيل المناظرة، وكرر القصة في حوارٍ تلفزيوني حديث، ولا تزال ذاكرته حية، متع الله به وحفظه.

أثبت الشيخ أن الاهتمام بالعلوم الدينية، لا يتعارض مع شمولية التبحر في بقية المعارف، والغرْف من مختلف المنابع. فإنما السيل اجتماع النقط، وهذه العقلية المنفتحة، هي التي صنعت من ابن عقيل الظاهري ظاهرة علمية لافتة ومحترمة.
لما توفي الأديب السعودي، عبدالله الشهيل (ت 2018)، كتب أبو عبدالرحمن مقالةً وسمها بـ: «صلوات قلب»، تلفعت بروحانية العارف، وحكمة البصير: «حسبي حسبي ما مضى من العمر... إنني أرى فيهن الكفاية لاستقامة الأود، والتلفُع بالروحانية التي تُبارك العمر وتُزكيه، وحسبي أنني تجاوزتُ الأشد، وحسبي أن من أصحاب الأشُد عبدُك الصالح (أبو حنيفة)، رحمه الله تعالى، فإنه كان يستحيي أن يحجر على ابن خمسة وعشرين عاماً وإن كان طفلاً كبيراً، وحسبي يا ربي أنك أعذرت إلى صاحبها إن هو ظل على صبوته».
هذه شذرات عن علّامة وشيخ وفقيه وأديب موسوعي سعودي كبير، هو أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، متع الله به.

*سفير المملكة في الإمارات