تطورت شبكات التواصل الاجتماعي في اتجاهات وآفاق تبدو مفاجئة حتى لأصحابها، ولا يبدو حتى اليوم فكرة لتنظيم عملها وحدودها، فهي تكاد تدير نفسها بنفسها وفق شبكة معقدة من التدخلات والمصالح، وفي ذلك يمكن ملاحظة مجموعة من الحالات والظواهر التي لم تتعامل معها من قبل الدول والمجتمعات، إذ يقود شخص واحد (مارك زوكيربرج) ثلاث شركات عملاقة (فيسبوك وواتس أب وانستغرام) يتدفق خلالها من المعلومات والوثائق والأخبار والصور ما يفوق قدرة الخيال على تصوره.
وكانت قصة شركة «كامبردج انالاتيك للاستشارات السياسية» قضية كبرى حول فيسبوك ورئيسها مارك زوكيربرغ، وذلك عندما استخدمت خصوصيات عشرات الملايين من بيانات المستخدمين لأجل مصالح اقتصادية وسياسية لا تعنيهم بل ربما تضرهم. ويضاف إلى ذلك الاستخدام التجسسي والسياسي للشبكة، ونشر الأخبار المزيفة.
لقد كبرت شركة «فيسبوك» وأخواتها لدرجة أنها تشارك معظم الناس حياتهم وخصوصياتهم واتجاهاتهم، وتشكل سلوكهم الشخصي والتجاري كما السياسي والثقافي،.. كل هذا النفوذ الهائل يملكه شخص واحد، يقرر لمليارات الناس والمؤسسات ماذا يعرفون وماذا لا يعرفون، ولكن الأكثر خطورة في حياة الناس اليوم هو الفوضى في المعرفة والمعلومات، والتحديات الكبرى التي تواجه القنوات التقليدية لبث وتداول الأخبار والمعلومات والخدمات الإعلامية والمعرفية.
يبدو الأمر من وجهة نظر المتفائلين إيجابياً، إذ يمكن أن يكون «فيسبوك» مثل الظواهر التاريخية التي تشكلت عبر التاريخ، ولم يكن أحد قادراً على توقع تطورها ومستقبلها، وربما تكون شبكات التواصل ساحة جديدة تشبه الساحة التي بدأ بها الإنسان خطواته الحضارية، فمن المعروف تاريخياً أن الجماعات الإنسانية ثم القرى فالمدن بدأت بساحات اتخذها الناس لدفن الموتى، ومنحوها الاحترام والقداسة، وصاروا يلتقون هناك للطقوس والاحتفال والمقايضة والتقاضي، وتعاقدوا على السلام في أثناء هذه المناسبات، وصارت هذه الساحات قلب المدن ومركزها، واليوم تبدو شبكات التواصل استعادة لتلك الساحات التي تعيد تنظيم أفكار الناس ومواردهم. لقد تحولت شبكات التواصل في تفاعلها مع الموبايل إلى أسلوب حياة بما في ذلك من مساوئ وحسنات، لكن لم يعد ممكنا تخيل الحياة بدونه، فالناس اليوم يشاركون في الأفكار والسلع والخدمات على نحو معقد ومدهش.
ومن وجهة نظر المتشائمين، فإنها شبكات كرّست الاحتكار والفوضى، وأضعفت كثيراً المستوى المعرفي والفني للمحتوى الإعلامي، وأخضعت قضايا ومصالح جوهرية وكبرى للفوضى أو التنظيم الذاتي غير المعقول، أو تحت سيطرة قلة من الناس، وأضعفت قدرة الدول والمجتمعات على التنظيم الاجتماعي والأخلاقي، لكن المتفائلين يردون بالقول إن أحداً لا يملك وصاية على الأفراد والمجتمعات، كما أن إسناد التنظيم الاجتماعي والأخلاقي للمجتمعات أو الدولة، أو المؤسسات الدينية حدث في ظروف وتطورات تاريخية واقتصادية تشبه شبكات التواصل، وقبل أن يكون للناس هذه المؤسسات المنظمة والمعقدة كانوا قادرين على التفكير والتأمل فيما يصلح لهم ولا يصلح، ولم تتغير أو تتأثر القيم والأخلاق الكبرى والعليا في جميع مراحل الإنسانية، كما أن هذه المؤسسات الاجتماعية والتنظيمية ليست مقدسة، كما أنها ليست مهددة كما يظن البعض، بل على العكس فإنها تعيد تنظيم نفسها ودورها وتستفيد من شبكات التواصل في صيانة وإصلاح دورها وعلاقاتها مع الفاعلين الاجتماعيين. ويمكن الملاحظة على سبيل المثال كيف تحولت ويكيبيديا إلى موسوعة هائلة، هي الأكثر مرجعية واستخداما اليوم للمتابعة المعرفية حول جميع القضايا التي يحتاجها الباحثون والمثقفون والطلاب وجميع الناس، وهي في ذلك تنظم نفسها بنفسها، وفي وسع كل إنسان المشاركة فيها، ولم يجعلها ذلك برغم الأخطاء الكثيرة خطرا على المعرفة. العكس فإن المشاركين استطاعوا أن ينشئوا ويطوروا محتوى معرفيا جيداً ومفيداً.
ويقول الوسطيون كما في دراسة مطولة نشرت مؤخراً في صحيفة «نيويورك تايمز» إنه ليس مطلوباً بالطبع حظر «فيسبوك» ولا إنكار أهميته، فهو إنجاز جميل ومفيد ولا يستغنى عنه، ولكن نحتاج إلى مجموعة من التشريعات والسياسات التي تقلل من الاحتكار والهيمنة، على سبيل المثال يجب فصل شركات التواصل عن بعضها ولا يجوز أن تشتري شركة شركات أخرى أو تهيمن عليها، ويجب أيضاً أن تتحمل شركات التواصل مسؤولية قانونية واجتماعية وأخلاقية لإدارة وتنظيم المحتوى والحسابات والتداول وفق القوانين والمبادئ والقيم المنظمة لعمل الشركات والمؤسسات التقليدية، وفي مقدور إدارة هذه الشبكات أن تمنع الحسابات الوهمية والأخبار المزيفة والإساءات المتفق على أنها إساءة في قوانين الدول والمجتمعات وقيمها، ويمكن أيضاً اقتباس قوانين تنظيم المؤسسات الإعلامية. كما يجب الالتزام الدائم بمنع استخدام بيانات شبكات التواصل لمصالح سياسيين وشركات أو للتسويق التجاري، وأن تلتزم شبكات التواصل بالحفاظ على سرية المعلومات الشخصية للمستخدمين وخصوصيتهم.
مؤكد بالطبع كما هو الحال في تاريخ التكنولوجيا مثل الصحافة الإذاعة والتلفزيون أنها تغير كثيراً في الأعمال والموارد والعلاقات، هكذا فإنه لم يعد وارداً القضاء على شبكات التواصل، ولا مجال سوى مواجهة الظاهرة وإدارتها وترشيدها.. والاعتراف بها.
*كاتب وباحث أردني