اشتكى الفلسطينيون إلى مجلس الأمن بسبب هدم مساكنهم بجوار القدس، ولا حجة للهدم إلاّ قرب المساكن من السور غير الشرعي الذي بنته إسرائيل! وكان هناك شبه إجماع على إدانة عملية الهدم. وقد سبق للاحتجاج سفراء الدول الأوروبية في إسرائيل، وجمعيات عالمية لحقوق الإنسان. لذلك ما اعترض على إصدار قرار بالإدانة غير الولايات المتحدة، بينما انزعج من الاعتراض الأميركي حتى المندوب البريطاني، فضلاً عن الروس والصينيين.
وللمندوب الأميركي غرينبلات سببان للاعتراض؛ الأول تقليدي، وهو أنّ آمال الفلسطينيين بالاستجابة لشكاواهم تقلِّل من حرصهم على التفاوض المباشر وإجراء التنازلات المتبادلة، وتزعج الطرف الإسرائيلي الذي لا يوافق على التفاوض على أساس القرارات الدولية. وهكذا وبسبب هذه العلة التي تُستخدم من جانب الأميركيين منذ آماد، حرصاً على استمرار وساطتهم من خارج الأُمم المتحدة، يكون اللجوء إلى الجهات الدولية من أسباب تعويق الحلّ أو تعطيله! وإذا كان الأمر كذلك: إلى من يلجأ الضعيف وصاحب الحق المستلب؟ لا يجيب الأميركي هنا مباشرةً، بل يلجأ للحجة الثانية الأشد غرابة.
الحجة الثانية لدى غرينبلات أنّ القرارات الدولية، وفي مقدمتها القرار 242، لا تفيد شيئاً بدليل أنها لم تُطبق مطلقاً. وهو لا يقول هنا ما الذي حال دون تطبيقها: إنه الرفض الإسرائيلي، واستعمال الولايات المتحدة «حق الفيتو» ضد تطبيقها.
إنما المهم والطريف الأمر الذي يتابع فيه الأميركي حجته: القرارات الدولية لم تطبق، لذا فهي غير مفيدة، وقد أضرت أشدّ الضرر بالفلسطينيين. لذلك فنحن الأميركيين، باعتبارنا وسطاء خير وصلح، نعرض حلاًّ ذا شقين: شق اقتصادي، ننهض من خلاله بأوضاع الفلسطينيين بالداخل، في التجارة والصناعة والتعليم والمعيشة، وبأوضاعهم في منافيهم بلبنان والأردن. وهذا النهوض لدى فلسطينيي الداخل يتضمن الاعتراف بالمستوطنات على أرضهم، والاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل. أما بالنسبة لفلسطينيي الخارج فتكون الستة أو السبعة مليارات دولار تعويضاً لهم عن ديارهم ووطنهم، والمفروض أن يتقاسموها مع البلدان المضيفة، أي لبنان والأردن!
وبالطبع ما قبل ذلك أحدٌ من الفلسطينيين أو العرب حتى ممن حضروا مؤتمر البحرين. لذا جاء غرينبلات في مجلس الأمن ليقول: لقد نجح مؤتمر البحرين، رغم أنّ أحداً ممن عُرضت عليهم الفلوس لم يقبلها علناً ولا سراً! لذلك تابع المندوب الأميركي (بعد الإدلاء بحجج طويلة عن حق اليهود في القدس) أنه سيتم في زمنٍ قريبٍ الإعلان عن القسم السياسي من الحلّ. وهنا انتقد الفلسطينيين بشدة، لأنهم رفضوا الجانب السياسي دون أن يعرفوا حيثياته! وفي حين كانت حجة سائر أعضاء مجلس الأمن الالتزام بالقرارات الدولية، والارتباط بحل الدولتين، قال المندوب الفلسطيني وهو عضوٌ مراقب: المكتوب يُقرأُ من عنوانه، وله عدة عناوين منافية لحقوق الشعب الفلسطيني: مثل ضمّ القدس، وضم المستوطنات، وإنكار حق العودة للاجئين، والصمت عن «حل الدولتين»، والموقف الأميركي الحالي من هدم المساكن التي يحميها اتفاق أوسلو لعام 1993.
معظم المذكور سابقاً من الحجج والحجج المضادة مكرورٌ ومُعادٌ من كل الأطراف. إنما هناك أمران جديدان في الموقف الأميركي لا أظن أنّ الإدارات اللاحقة ستستطيع العودة عنهما ولو أرادت. الأول: عودة مقولة الحق التاريخي والوعد الإلهي. وهذا الموضوع تكلم فيه غرينبلات في مجلس الأمن، وهو يهودي مشهور بمواقفه الموالية لإسرائيل.
والأمر الثاني هو أنّ الولايات المتحدة لا تلتزم بالقرارات الدولية التي سبق أن وافقت عليها، والحجة في ذلك تارةً أنها لم تُطبقْ، وتارة أخرى أنها لم تعالج القضايا الإشكالية معالجةً ملائمة.
لكن ما هي المؤسسات الدولية؟ هي جهات تتشاور فيها القوى الدولية حول مسائل الأمن العالمي والمصالح الكبرى، بغية الوصول إلى توافقات وإجماعات تعمل على إنفاذها بما يصون أمن الجميع ومصالحهم.
لكن إدارة ترامب ترى في التوافقات والقرارات الدولية ككل، أعباء مادية واستراتيجية ما عادت تريد تحمل تبعاتها.. وهذا ما يهدد بقاء النظام العالمي الذي ظلت الولايات المتحدة عماده حتى الآن.