في تعليقها على تولي بوريس جونسون رئاسة الحكومة البريطانية، ذهبت صحيفة «الغارديان» إلى القول بأن بريطانيا تواجه مع الزعيم المحافظ الجديد أخطر تحد عرفته منذ أربعينيات القرن الماضي، وهو طريقة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي الذي اعتبره جونسون خياراً لا محيد عنه قبل نهاية أكتوبر 2019 ولو من دون اتفاق مسبق مع المفوضية الأوروبية.
كثير من التعليقات اعتبرت أن المملكة المتحدة ذات التراث السياسي العريق قد انجرفت في الموجة الشعبوية التي تجتاح البلدان الغربية راهناً، وبعضها نعت جونسون بأنه «ترامب البريطاني» الذي يشبهه ليس فقط في لون الشعر ونمط الخطاب الاستفزازي الساخر، وإنما في التوجهات السياسية والفكرية. بيد أن الحقيقة أكثر تعقيداً باعتبار اختلاف السياقات والتجارب بين الحليفين الأنكلوسكسونيين.
ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن ما تعرفه الديمقراطيات الأوروبية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة والبرازيل، ليس هيمنة اليمين القومي المتطرف، كما هي الصورة السائدة حتى لو كانت بعض مكونات هذا اليمين القومي المتعصب استفادت من التحولات الكبرى التي شهدها الحقل السياسي الغربي. إنما نشهده حالياً هو تشكل تحالف بين كتلتين متمايزتين من حيث الخلفيات الأيديولوجية والاجتماعية هما: الكتلة المحافظة التي هي من المكونات التقليدية للساحة السياسية في الديمقراطيات الغربية، والاتجاهات الشعبوية التي كانت في السابق أقرب لليسار الاشتراكي.
لقد بدأت التحولات في الثمانينيات من القرن الماضي مع تبني الكتلة المحافظة المقاييس الليبرالية الجديدة، بما ترمز له تجربتا مارغريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في الولايات المتحدة، في تراجع عميق عن الإصلاحات الكينزية التي بلورتها المنظومة الرأسمالية بعد أزمة الثلاثينيات وما بعد الحرب العالمية الثانية، بما تجسد في تقليص سياسات الرعاية الاجتماعية وتحرير سوق العمل وتقييد تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي.
النتيجة الكبرى لذلك التحول في بريطانيا هي تجاوز التناقض التقليدي بين الليبرالية الاقتصادية المحافظة اجتماعياً والليبرالية السياسية والاجتماعية الحداثية المنفتحة، بما استفاد منه انتخابياً حزب المحافظين الذي ينحدر منه رؤساء الحكومات الثلاثة الأخيرين، بل إن حزب العمال انحاز في الحقبة البليرية إلى نفس الصياغة التأليفية التي يسعى زعيمه الحالي جرمي كوربين إلى الخروج عليها من منطلقات يسارية راديكالية.
أما الاتجاهات الشعبوية فهي في تعارض واضح مع التوجهات الليبرالية في منطقها المعولم المنفتح، إذ تصدر عن خلفية الاستناد إلى سيادة الأمة وأولوية المصالح الوطنية وحفظ الاستقلال الوطني في مواجهة حركية القولبة الكونية المفضية لمحو الحدود وإلغاء الحواجز بين الدول والبلدان.
وإذا كانت الاتجاهات المحافظة تركز تقليدياً على مفاهيم الهوية في أبعادها الثقافية والقومية لحماية الخصوصية الوطنية، فإن النزعات الشعبوية تركز على اعتبارات السيادة من منظور قانوني ليبرالي، ولذا فهي أقرب في المنشأ للتشكيلات اليسارية، ومن هنا ندرك تزامن صعود الشعبويات اليمينية واليسارية في السياق الأوروبي الراهن.
بيد أن التحالف الحالي بين الكتلتين المحافظة والشعبوية (كما هو بارز في إيطاليا وهنغاريا وبولندا وفي صفوف المعارضة اليمينية الفرنسية)، يقوم على ثلاثة مرتكزات أساسية هي: التشبث بخطاب السيادة والوطنية في مواجهة قوى العولمة ولو من زاويتين متباينتين (الشعب بصفته هوية قومية وثقافية أو بصفته مجموعة قانونية مندمجة)، النظرة العدائية الهجومية للنخب السياسية باعتبارها «فاسدة وغير معبرة عن مصالح الأمة»، النظرة المتشددة إزاء الهجرة الخارجية والمهاجرين بالانطلاق إما من منطق حماية المصالح الوطنية أو حماية النسيج القومي والثقافي المحلي.
وإذا كانت قاعدة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تضم مكوناً محافظاً قوياً من عناصر الطيف الجمهوري التقليدي، بالإضافة إلى مكون إنجيلي أصولي محافظ، فإنه في خطابه السياسي وتوجهاته الأيديولوجية أقرب للخط الليبرالي الجديد، ولو من منطلقات وطنية انكفائية هي التي تجمعه مع الكتلة المحافظة المؤيدة له. نفس الملاحظة تصدق على رئيس الحكومة البريطاني الجديد بوريس جونسون الذي ينحدر من الخط التاتشري في جمعه بين الليبرالية الاقتصادية والليبرالية الاجتماعية المنفتحة، وإن كان متحالفاً مع التيارات الشعبوية اليمينية التي لا ينتمي لها أصلا.
ما نخلص إليه هو أن الائتلاف المحافظ الشعبوي الذي يشكل اليوم اتجاهاً قوياً في الحياة السياسية الغربية يعبر عن أزمة عميقة تعرفها حالياً المنظومة الليبرالية من حيث التوتر الداخلي بين منطق الانفتاح والكونية الذي هو محركها الاقتصادي ومقومها النظري ومنطق السيادة والهوية الوطنية الذي هو قاعدتها السياسية وبوصلتها الاستراتيجية.

*أكاديمي موريتاني