تعرّضت الساحة السياسية الأميركية لصدمتين كبيرتين، وكاشفتين، خلال الشهر الماضي. كانت الأولى سياسية، وسببتها أولى المناظرات بين الطامحين من «الديمقراطيين» إلى منصب الرئيس الأميركي. وكشفت المناظرات أن المرشحين المتصدرين في الحزب جنحوا إلى اليسار في بعض القضايا الرئيسة، مثل الحدود والرعاية الصحية الوطنية، وعلاج المهاجرين غير الشرعيين، أكثر من كثير أبناء الحزب «الديمقراطي»، ناهيك عن المستقلين والمعتدلين من «الجمهوريين» الباحثين عن بديل للرئيس دونالد ترامب.
وأما الصدمة الثانية الكبيرة فكانت أخلاقية، وتسبب فيها أنصار الرئيس دونالد ترامب أثناء تجمّعه الانتخابي في كارولينا الشمالية الأسبوع الماضي. فعندما انتقد نائبة ديمقراطية من أصل صومالي، هتف أنصاره «أعدها من حيث جاءت!». وهذا التصرف لا يمتّ إلى القيم الأميركية بصلة.
وهاتان الصدمتان، في مجملهما، يساعدان على توضيح السبب في أن نتائج استطلاع حديث للرأي تشي بأن عدداً كبيراً من الناخبين يشعرون بأنه لا يوجد مرشح يمثّلهم. وهذه المجموعة كثيراً ما تُوصف، عادة باستهزاء، ب«الوسطيين» أو «المعتدلين».
وأنا ضمن هذه الفئة من الناخبين، لكن لا أفضل وصف نفسي ب«الوسطي»، لأن هذا الوصف عادة ما يشير ضمناً إلى الشخص الذي تبدو آراؤه مشوّشة، بين أفكار قطبي اليسار واليمين المحددة بوضوح. وأفكاري ليست مشوشة، وإنما منبثقة من نهج مختلف تجاه الوضع السياسي.
وعلى مدار عقود، عُرفت ساحتنا السياسية، وكثير من الدول الديمقراطية الصناعية، بشبكة أساسية من الاختيارات الثنائية بين اليمين واليسار، فإما أنك مع رؤوس الأموال أو العمال، مع حلول الحكومات الموسعة أو مع حلول الحكومات الصغيرة، مؤيد للتجارة المفتوحة والحدود المفتوحة أو لإغلاقهما، تفضل الحلول الاقتصادية الصديقة للبيئة على حساب النمو ومتقبل للمبادئ الاجتماعية الجديدة أو تُعارضها.
وإذا كنت منتمياً لحزب أو آخر، فمن المتوقع أن تقبل بقائمة مبادئه وتؤمن بها. لكن حالة التسارع التي نشهدها الآن على صعيد التغير المناخي والتكنولوجيا والعولمة قد جعلت نهج قائمة المبادئ في الحكم بلا جدوى. فهذا العصر يحتاج إلى نهج مختلف، كالذي عبّر عنه «لينتون ويلز»، المحلل الدفاعي والخبير في استراتيجيات المرونة. ويزعم «ويلز» أنه من أجل إيجاد حلول للمشكلات العويصة في الوقت الراهن، فعلينا «ألا نفكر أبداً داخل الصندوق، وألا نفكر أبداً خارج الصندوق، وإنما علينا أن نفكر من دون أي صندوق».
أو مثلما أوضح الخبير الاستراتيجي في مستقبل الوظائف «هيثر ماجوان»: «إن حالة التسارع في التغير المناخي والتغيير التكنولوجي والعولمة متشابكة لدرجة أن شبكتنا القديمة ثنائية الأبعاد ذات الخيارات الثنائية من اليسار أو اليمين، لم تعد كافية لمواجهتها، وإنما تتطلب مجموعة جديدة ثلاثية الأبعاد أكثر تعقيداً من الأدوات السياسية وأساليب المواجهة».
وأتصور أن الناخبين يدركون ذلك، وأن عالمهم يُعاد تشكيله، وقليل جداً من السياسيين يساعدونهم على الإبحار بين أمواجه المتلاطمة.
وبالنسبة لترامب، فقد ابتعد كل البعد عن كل الأمور المعقدة، ويسعى جاهداً إلى الحفاظ على قاعدته الانتخابية وتوسيعها. وأما «الديمقراطيون» فهم أكثر جدية، لكن حاجتهم إلى الفوز في المنافسات التمهيدية جذبتهم إلى قائمة المبادئ القديمة للحزب، حتى على رغم من أن الحلول الحقيقية تتطلب مزيجاً من مبادئ اليمين واليسار، وكل أنواع الأدوات الجديدة التي لم نتخيلها أبداً.
فعلى سبيل المثال، إذا أردنا وقف فيضان الهجرة عند حدودنا الجنوبية، فعلينا أن نفهم دوافع هذه الهجرة من الأساس. وهذه الدوافع عبارة عن توليفة من الطقس المتطرف، لاسيما الجفاف الذي يهدد الأمن الغذائي، وسوء الإدارة الحكومية، وحرب العصابات، والإدمان على المخدرات داخل أميركا حيث تمثل شريان حياة لإنتاج وترويج المخدرات في الدول التي يأتي منها المهاجرون. وكل هذه العوامل مزعزعة للاستقرار في دول أميركا الوسطى الضعيفة.
ويعني ذلك أن المواجهة الملائمة لابد أن تكون مزيجاً من السياسات: لتخفيف وطأة التغير المناخي، والمساعدة على تحسين الحكم والشرطة في أميركا الوسطى، وتشديد الأمن الحدودي في أميركا بحيث لا يستطيع الناس الدخول من دون رقابة، وتشديد قواعد اللجوء، وترحيل من لا تنطبق عليهم شروط اللجوء، وأيضاً سياسة هجرة تقبل اليائسين الذين تنطبق عليهم المعايير، والترهيب بالمهاجرين القانونيين من أصحاب معدلات الذكاء المرتفعة. ومن دون اللجوء إلى مبادئ يمينية ويسارية وقليل من الحلول المبتكرة، لن نتمكن أبداً من معالجة قضية الهجرة.
*كاتب أميركي
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»