نشرت الاتحاد (30 يوليو 2019) تقريراً مطولاً عن «ليبرا» العملة الرقمية اللامركزية، التي تعتزم شركة فيسبوك على إصدارها، وحسب التقرير، فإن «فيسبوك» أنشأت مصرفاً في سويسرا تحت اسم «كاليبرا»، لأجل خدمة وتنظيم العملة الجديدة المتوقع أن تطرح في السوق العام القادم، وكما هو شأن الإعلام والتعليم والعمل وسائر المؤسسات والأسواق، فإن النقود أيضاً كما البنوك والأنظمة النقدية تواجه تحديات العصر الرقمي. وسواء نجحت المؤسسات النقدية المركزية أو التجارية في كبح «الفوضى النقدية»، فإنها في مواجهة انتهاء عصر النقود، كما أن الأنظمة النقدية السيادية التي صاحبت ظهور الدولة الحديثة ومؤسساتها المالية في القرن السابع عشر تواجه بالتأكيد تحديات كبرى، في دورها وقدراتها وعلاقاتها مع الأسواق والأعمال والأموال.
لقد كانت النقود الورقية ثورة كبرى في عالم المال، لا تقل في جذريتها عن النقود الإلكترونية، وظلت عمليات إصدار النقود الورقية، لأكثر من ثلاثة قرون، مرتبطة بغطاء من الذهب حتى عام 1971، عندما أوقف الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون نافذة الذهب التي كان يمكن فيها مبادلة الدولارات في ظروف محددة بعينها بالذهب، واعتباراً من ذلك التاريخ كُسرت الحلقة التي استمرت لقرون تربط بين المال والمعادن الثمينة، وكان جون مينارد كينز قد دعا في العام 1924 إلى التخلي عن قاعدة الذهب، ويبدو أن الحقيقة التي لا مهرب منها كما يقول نيال فيرجسون مؤلف كتاب صعود المال: التاريخ المالي للعالم؛ هي أن كسر الحلقة بين خلق النقود ومصدر استقرارها أدى إلى توسع نقدي غير مسبوق، رافقته زيادة كبيرة في الإقراض لم يشهد لها العالم مثيلاً.
ولا بد تبعاً لذلك من أن تنشئ النقود الإلكترونية عالماً مالياً جديداً، سواء في تنظيمها والسيادة عليها، أو في معناها والثقة بها، فحين تحول العالم من الاستخدام المباشر للذهب والفضة كان ذلك مسألة اعتقاد وثقة بالدولة الحديثة ضامنة هذه الصكوك والأوراق النقدية، والحال أنها ليست سوى «ثقة»! سواء كانت هذه الثقة للذهب أو الفضة - اللتين كانتا هما أيضاً ثورة بديلة للمقايضة وتقييم الثروة بالسلع والمواشي والحبوب- أو للتعهد الذي تلتزمه الجهة المصدرة للأوراق والأسهم والسندات، وليس مصادفة أن أصل كلمة credit «ائتمان» هو كلمة credo وتعني في اللاتينية «أنا أصدِّق»، وليس مستبعداً تبعاً لذلك أن تكون الثروة في العصر الرقمي مجرد أصفار وآحاد.
وبالطبع، فإنها مبادرات أو مغامرات تثير القلق لدى المؤسسات المالية والمصرفية، كما جميع المتعاملين مع المال والأسواق، لكن يبدو مرجحاً أن الأنظمة المالية والنقدية معرضة لإعادة تنظيم نفسها، لتواصل الاحتفاظ بالثقة والسيادة، وهما مسألتان (الثقة والسيادة) تواجهان تحديات، إذ يتداخل العالم ببعضه على نحو يجعل سيادة الدول ومؤسساتها مرتبطة بالتفاهمات والعلاقات الدولية، وكما تجاوزت المنظمات العالمية وكذا الشبكات والشركات والأفكار سيادة الدول وتحدت قدرتها على تنظيم مجالها وحدودها، فإن النقود والعملات الإلكترونية تملك الفرصة نفسها إذا اكتسبت ثقة المتعاملين، ووفقت أوضاعها القانونية، أو أجرت تسويات وحلولاً مؤسسية توافق عليها الدول والمنظمات العالمية.
ربما تستطيع الدول والمؤسسات النقدية والبنوك وقف أو مواجهة المنظومة المالية الإلكترونية الخارجة على السيادة، لكن ذلك على الأغلب سيكون لفترة زمنية محدودة، تنشئ فيها السلطات والبنوك تفاهمات وترتيبات، هي وإن كانت تقيد وتنظم النقود الجديدة بالضوابط القانونية والأمنية وتخضعها لسيادة الدول والمنظمات العالمية، فإنها بلا شك سوف تغير كثيراً في بنية وعمل ودور المؤسسات العالمية، والتي بدأت بالفعل بالتكيف والاستجابة للعصر الرقمي؛ إذ يتوقع رئيس اتحاد المصارف الإماراتية، السيد عبدالعزيز الغرير، أن ينخفض تداول العملات الورقية في الإمارات بنسبة 50 في المائة في السنوات الخمس القادمة، مفسحاً المجال للحلول والمنتجات المالية الرقمية، القائمة على الحوسبة والذكاء الصناعي والحوسبة الإدراكية.
ومهما كانت الصيغة المادية والقانونية للتعبير عن المال وتداوله، فإن الثروة الحقيقية التي تتشكل اليوم في عصر الشبكية هي «الثقة»، وسواء نجحت النقود الإلكترونية مثل «بيتكوين» و«ليبرا» أو فشلت، فإن العالم ينشئ معنى جديداً للنقود والمؤسسات المالية والمصرفية، فالشبكية والرقمية تنشئ قدرات وفرصاً جديدة لتبادل المعلومات واختبار الثقة، وفي ذلك يصعد دور المدن والمجتمعات والأفراد ومشاركتهم في الحياة الاقتصادية والعامة، وبطبيعة الحال فإنها مشاركة تغير في معنى وطبيعة الاعتمادات المالية في الأسواق والمنتجات وفي حمايتها وتغطيتها، ولم يعد صعباً أو مستبعداً أن يتحول المسلسل التلفزيوني «المرآة السوداء» إلى واقع عملي، فيكون في مقدور الإنسان أن يحول الثقة التي يتمتع بها إلى ثروة يستخدمها في البيع والشراء والاستثمار!
*كاتب وباحث أردني