عندما سألتُ العالمَ العراقي صالح جواد الوكيل: لماذا لم يُمنح «جائزة نوبل؟»، أجاب: «لأني حِلّاوي»، أي من مدينة الحلة، وانفجر كلانا بالضحك. فلا تفسير لوضع غير معقول سوى اللامعقول. حدث ذلك خلال لقائي بالوكيل أولّ مرة عام 1991 في مختبره بـ«كلية بايلور الطبية» في هيوستن، والتي يُقال عنها: إذا استعصى المرض على «هارفرد» و«كولومبيا»، فاذهب إلى «بايلور». وكان جراح القلب اللبناني الأصل المشهور «مايكل دبغي»، الذي يرأس «كلية بايلور»، قد دعا الوكيل شخصياً لرئاسة «قسم الكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية»، ورئاسة فريق دولي يدرس أسباب تكوّن الدهون في الدم، والتي يؤدي تراكمها إلى السكتتين القلبية والدماغية، ومرض السكري، وهي حالات تعتبرُ السبب الأول للوفاة في بلدان عدة.
والوكيل من جيل علماء قال عنهم الكاتب العلمي «إسحاق أزيموف»: «أزالوا الحدود بين الحياة واللاحياة في العلم». حيث ذكر بيان انتخابه عام 1990 عضواً في أهم مؤسسة علمية عالمية، وهي «الأكاديمية الوطنية للعلوم» بالولايات المتحدة، أن «أعمال الوكيل أدمجت علم الكيمياء الحيوية بعلم الفيزياء الحيوية، لتنشئ العلم الجديد (الأحياء الجزيئية)»، وهي منطلق ثورة علمية دمجت دراسة التفاعلات الكيماوية للأنسجة الحية بدراسة القوى والظواهر الفيزيائية للعمليات الحياتية. وهذه معضلة «نوبل» التي تواجهها في «تداخل فروع علمية كانت منفصلة بعضها عن بعض، أخذت تتقاطع وتندمج، في مصّب يجمع علماء الفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والهندسة، والطب، والكومبيوتر، والرياضيات». ذكر ذلك عالم الفيزياء العراقي البريطاني جميل الخليلي في مقالة عنوانها «لماذا الحاجة لقلب أوضاع جوائز نوبل؟».
غادر «الوكيل» دُنيانا هذا الشهر، وكان بيان نعيه بالأحرى نعياً لجائزة «نوبل» التي خسرته. فقد أسس وهو على مشارف التسعين شركة FGH BioTech, Inc لتطوير تكنولوجيا مبتكرة لضبط الدهونات، وطاقة «الإيض» (وهي مجموع العمليات المتصلة بضبط البروتوبلازما، حجيرات الحياة الأساسية في بناء الخلايا). وذكر بيان نعيه في موقع «الأكاديمية» أن اكتشافاته في المختبر تملك قدرة عظيمة في التوصل إلى أنماط علاج للسرطان، وأمراض الجهاز الدموي، والسكري، والسمنة. وبين من شاركوا في نعيه على موقع الأكاديمية عالمة الطب العراقية «ثناء سعيد» التي قالت إن «تراثه في الكيمياء البيولوجية للدهون باق، وسيحتفظ الآلاف من طلبته بذكراه، لثراء المعارف التي أتحفهم بها في هذا المجال». واستعادت العالمة العراقية التي عملت نهاية القرن الماضي في أبحاث سرطان الثدي في «كلية بايلور» زيارةَ الوكيل للعراق في الثمانينيات، وكانت آنذاك مساعدة أستاذ في الجامعة المستنصرية، حيث عقد الوكيل ندوات علمية لمراجعة برامج الطاقم الجامعي العراقي.
كان الوكيل يجد وسط انشغالاته العلمية الدولية الوقت لقراءة مقالاتي، والتعليق عليها، كما في مقالتي عن طعام العيد، والتي قال إنها وصلته وقت الغداء في هيوستن، «وجعلتني أشعر بالجوع، و(التنور) الذي تحدثتَ عنه ذّكرني بـ(التنور) الذي كانت الوالدة تعدّ لنا الخبز فيه، وكنتُ عندما أعود من المدرسة أقف إلى جانبها فتعطيني (كرصة)، أي رغيف خبز ساخن ومقرمش، وأسعد بأكله كفاتح للشهية قبل الغذاء». واستطرد الوكيل في الحديث عن موقع «كيش» الآثاري، الذي يبعد بضعة أميال عن الحلة، وقال إنه زاره وشاهد «تنوراً بناه الأكديون قبل أكثر من ستة آلاف عام، وكان تصميمه وشكله مثل تنور أمي».
هذا التعلق بالعراق أوجع قلبي، ونحن في السيارة في أبوظبي لحضور مؤتمر «المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا». آنذاك شرعت زوجته السيدة فوزية البحراني تنشد بصوت شجي خفيض أغنية عراقية قديمة، تقول: «هذا مو إنصاف مِنّك، غيبتك هلكد تطول، الناس لو تسألني عنك شأريد أجاوبهم شأكول». نظرة الشغف التي كان يتطلع بها الوكيل لزوجته وهي تغني، لم أشاهدها في وجه عاشق من قبل.. فماذا نقول للسيدة فوزية، التي وجهت لها معظم رسائل كبار العلماء المنشورة في صفحة تأبين الوكيل؟

*مستشار في العلوم والتكنولوجيا