عندما يقف الإنسان أمام المرآة فإنه يعكس صورة دقيقة لنفسه، وليس لشخص آخر، وبالطريقة ذاتها يعكس الفن والأدب والإنتاج الفكري والثقافي المجتمع، كما يظهر التأثير الجليّ للمجتمع في فرض القيود على حرية الفن والأدب والفكر والثقافة، وتحديد موقف المثقف والفنان والمفكر من قضايا المجتمع الصغير الذي أتى منه، وعندما يعبّر بفنه ومنتجه خارج حدود الحاضنة التي يشعر فيها بالراحة والانتماء للفضاء الإنساني الأكبر يتحول لمفكر ومبدع إنساني عابر لحدود الفكر الإنساني الأكبر، ولذلك فأولئك الذين يعلنون فلسفة اجتماعية محددة ويرفضون من يغرّد خارج سرب المألوف والمقبول لديهم هم مثقفون وفنانون تائهون ما بين المفاهيم المجرّدة والواقع.
وعلى ما يبدو فإن مناقشة حرية التعبير الفني والثقافي في مجتمعنا العربي هو صراع بين تقاليد ضاربة في الجذور تتبناها الأقلية في المجتمع العربي، وتقاليد ليس بها تقاليد تببناها أجيال تمثل الأغلبية في مرحلة ما بعد الثقافة التقليدية للمواطن العربي، والذي يتخذّ من وسائل التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال، نموذجاً للثقافة الدارجة التي يشكل فيها التعبير عن الرأي والفكر، انعكاساً للتغيّرات الحادثة في المجتمعات من حولنا ككل، وعليه يعدّ احترام ما تقدمه الأجيال الناشئة من إبداع له جمهور عريض هو صراع مفتوح جعلت منه الأجيال الأكبر في السن حرباً أخلاقية، وتتجنّب أغلب الحكومات العربية خوض تحدي إدارة ملف التغيير الحتمي للثقافة والفنون.
وفي المقابل، هناك غياب ملحوظ لتأثير التقاليد الفلسفية الأصيلة في المجتمع العربي فيما يتعلّق بثقافة الحرية المؤسسية لكونها ليست جزءاً من مسلمّات العقل العربي، ولا تنزل المصطلحات الفلسفية إلى الشارع كسلوك نراه في ممارسات العامة، وهو المحكّ بين المجتمعات التي تتبنى الحداثة الثقافية والفنية كصورة جميلة في إطار قبيح، والعكس هو ما يحدث في مجتمعاتنا العربية، حيث إن المجتمع هو الحاضنة الأم للثقافة والأدب والتعبير الفني والفكري.
وبما أن الثقافة في المجتمعات العربية تقوم على بنية تحتية قوامها المفاضلة المبنية على الأفكار الدينية أو العرق، والبعد الاجتماعي والعقائدي فهي بالضرورة لا تصلح أن تكون أساساً لبيئة ثقافية حرة لكونها فئوية وتأخذ طابعاً نمطياً تشعبت منه النصوص الثقافية والفنية العربية، في كوميديا سوداء حرفياً غارقة في كلمات تُضحك المشاهد دون وجود فكر أو رسالة، وتجد الممارسات من قبل الجمهور في دار السينما أو المسرح تعبيراً قوياً عن ثقافة هذا المجتمع الذي ينادي بحرق الكتب وحظر الأفكار المختلفة، ومنع أصحاب الرأي الديني أو الثقافي المخالف من التعبير بحرية عن أفكارهم وهو بالمناسبة ليس بسبب الرقابة أو تسلّط من قبل الحكومات، بلّ كون رقابة الذباب الفكري هي التي تسود المجتمع وتدفعه نحو تقديس الجمود ووأد العقول وإجهاض عامل الإبهار لدى المبدعين.
فثقافة الحرية الفنية والأدبية والفكرية تبحث عن الحقيقة وهي في بحث دائم متجدد، وتدرك أن الحقيقة الجاهزة هي حقيقة ناقصة محاطة بقيود التفكير الشمولي والتلقين واليقين الذاتي بعيداً عن الموضوعية والعقلانية التي تختزل في الموروث الديني. ولذلك فالأرضية الصالحة لنمو الحرية الفنية والثقافية لا تتوفر في مجتمع إقصائي طائفي يرفض التعددية ويجعله القانون فقط خاضعاً لمبادئ قبول الآخر وعدم الاستخفاف به، بلّ يصّر على الجزم بحقائق هو وحده من يجزم بها، حيث تسود مبادئ الخضوع للسلطة الفكرية والمجتمعية أكثر من السلطة السياسية التي تجبر أحياناً على النزول عند رغبة الشارع وتقنّن الفكر والإبداع بتشريعات جعلت العقل العربي حبيس عبق التاريخ، وليس له فتوحات أو تجارب عظمى تدعو للخلاص الثقافي والحرية الفكرية، وكل من كان يخرج عن ثوابت المجتمع يتحرك بعيداً عن مجتمعه الذي يقسّم الناس إلى طبقات لا تمثّل فيها المعرفة غاية لذاتها.
وفي المقابل، كان الاختلاط بباقي الحضارات عتقاً عقلياً أبصر فيه العقل العربي الناقد الفاحص النور، وصدمة أن هناك قيماً غير الشجاعة والكرم والفخر والحسب لها وزن وبعد عميقان في تكوين الإنسان الفاضل، ومن هنا فإن الأصول الثقافية للمجتمع العربي لم تسمح للفرد العربي أن يكون تابعاً، حتى جاءت ثورة الاتصال والتواصل الاجتماعي لتقوم بنقلة نوعية في حرية التفكير في الوطن العربي والبعد عن الوصاية، ولكن ما يعاب هو أنه إذا لم ترتبط الحرية بالمسؤولية أصبحت هناك فوضى عارمة تجعل المبدع الحقيقي يقف على حافة هاوية الفساد الفكري والثقافي.