مع أننا ما زلنا نبعد عن انتخابات الرئاسة الأميركية بأكثر من سنة، فمن المألوف والمنطقي أن تبدأ إرهاصاتها في العام السابق على إجرائها، وأحد أسباب هذه البداية المبكرة هو النظام الانتخابي الأميركي الذي يعرف انتخابات تمهيدية معقدة يتوصل بعدها الحزبان الرئيسان إلى تسمية مرشحيهما، وتُزاح هذه المهمة عن كاهل الحزب الذي يتولى أحد أعضائه الرئاسة إذا كان لا يزال في ولايته الأولى، وهي حالة الحزب الجمهوري في هذه الانتخابات. وعادة ما يثور الجدل في هذه الحالة حول فرص الرئيس في ولاية ثانية، وهو جدل واسع في حالة الرئيس ترامب نظراً لما أثارته سياساته من اختلافات بين من يرى أنه من أقل الرؤساء الذين مروا على هذا المنصب كفاءة، مع الإشارة لوجود علاقة له بروسيا لتسهيل فوزه بالرئاسة، مروراً بالانشقاقات غير المسبوقة في فريقه الحاكم، وانتهاءً باتهامه باستعداء أطراف دولية مؤثرة، بما فيها الحلفاء الأوروبيون.
وبالمقابل، فإن أنصار ترامب يرون أنه حقق لبلاده إنجازات لا ينكرها إلا جاحد، وتكفي الإنجازات الاقتصادية التي تحققت بفضل صرامته في إدارة علاقاته الاقتصادية مع منافسي الولايات المتحدة التجاريين كالصين بل وحلفائها السياسيين كالاتحاد الأوروبي.
ويتبنى البعض في هذا الجدل توقعات تتسق وآراءه وتفضيلاته الشخصية، بمعنى أن الرافضين لسياسات ترامب يتوقعون أن فرصه في ولاية ثانية محدودة إنْ لم تكن منعدمة، بينما يرى أنصاره أنه سيتمتع بعضوية نادى الولايتين.
صحيح أن إحدى صعوبات التنبؤ السياسي تتمثل في التحيز الشخصي، بمعنى أن آراء المحلل وتفضيلاته توجه استنتاجاته، غير أن تحري الموضوعية يبقى ممكناً وإنْ كان صعباً، وإذا استحال التوصل إلى الموضوعية الكاملة فعلى الأقل يمكن تحقيقها بدرجة معقولة. وواقع الأمر في حالتنا أن ترامب قد فاز بولايته الأولى استناداً إلى قاعدة اجتماعية محددة لها رؤاها وتفضيلاتها، وقد نجح في إقناعها بأنه خير من يدافع عن مصالحها، وهي القاعدة البيضاء، ومن هنا تُنسب لها نزعات تتحمس لسياسات ترامب تجاه الهجرة واللاجئين وغيرها، ولا يوجد شك في الثقل السكاني لهذه القاعدة بما يعني قدرتها على حصد الأغلبية حال تماسكها وتوافر ظروف أخرى مواتية، لكن لا يوجد ما يشير إلى أن ترامب قد فقد تأييدها أو أن هذا التأييد قد تناقص، ويعمل ترامب بطبيعة الحال على الاحتفاظ بولائها لدرجة أن أحد المحللين السياسيين ذهب إلى أن تصريحات ترامب الأخيرة التي دعا فيها نائبات ديمقراطيات في الكونجرس انتقدنه للعودة من حيث أتين، قد قصد بها تعزيز ولاء هذه القاعدة له، أن القول بأن فرص ترامب في الفوز بولاية ثانية منعدمة هو قول غير علمي، وإنْ كان هذا لا يعني أنها مؤكدة أو حتى راجحة. فالاستنتاج السابق يرد على من يرون استحالة فوز ترامب بولاية ثانية، أما نتيجة الانتخابات الفعلية فمازال هناك أكثر من سنة يمكن أن تحدث فيها إنجازات جديدة وعثرات غير متوقعة قد تؤثر في تحديد شخص الجالس في البيت الأبيض خلال الولاية القادمة.
ومن المتغيرات المهمة في سباق الرئاسة الأميركية حال الطرف الآخر ‏في السباق، أي الحزب الديمقراطي، وهو متغير يعمل حتى الآن في مصلحة ترامب، إذ يتسم المشهد «الديمقراطي» بسمات ثلاث: أولاها التعدد المفرط للمرشحين الذين بلغ عددهم عشرين مرشحاً، وثانيتها الانقسام الحاد بينهم بسبب ظهور تيار يساري يبدو مرشحاً للنمو والتبلور في السنوات القادمة، أما السمة الثالثة فهي الافتقار لمرشح ذي كاريزما واضحة كما كان الحال بالنسبة لأوباما، فأهم مرشحي الحزب حتى الآن فاقد تماماً لأي كاريزما، والمؤكد أنه من الممكن مواجهة هذه النواقص فيما تبقى من وقت على إجراء الانتخابات، لكن المشهد لا يطمئن «الديمقراطيين» حتى الآن. ومن الطريف أن أحد المتسابقين على ترشيح الحزب قد ذكر تعليقاً على المناقشات التي جرت في المناظرات المنظمة حتى الآن بين مرشحي الحزب، أن «الشخص الذي يستمتع بهذا النقاش في الوقت الحالي هو دونالد ترامب».