رغم خطابها الودي إزاء المستهلكين، فإن لدى الشركات التكنولوجية الأميركية متعددة الجنسيات وجهاً أقل جمالاً؛ فهي بطلة في التهرب الضريبي رغم الأرباح المريحة جداً التي تحققها، وفيما تبحث مختلف الدول جاهدةً عن وسائل للحد من عجز موازناتها، فإن المساهمات الضعيفة لهذه الشركات في الإنفاق العام لا يمكن إلا أن تثير شهية وزراء المالية ودعم الرأي العام.
وبفضل نظام تهرب ضريبي، يدفع هؤلاء العمالقة ضرائب أقل من حيث النسبة المئوية، وأقل بكثير مقارنةً بالشركات الصغيرة والمتوسطة الفرنسية، فمثلاً أعلنت «جوجل» عن رقم معاملات في فرنسا يناهز 325 مليون يورو في 2017، وأفادت بأنها دفعت 14 مليون يوور من الضرائب، والحال أن مداخيلها من الإعلانات في فرنسا تقدر بملياري يورو.
وزير المالية الفرنسي برونو لومير، حاول إقناع زملائه الأوروبيين بأن لديهم مصلحة مشتركة في فرض ضرائب على هذه الشركات، ولا شك أن فعل ذلك على المستوى الأوروبي سيكون منطقياً، باعتبار أن هذه الشركات تحاول انتهاج أسلوب «فرق تسد»، وعلى اعتبار أن تشكيل جبهة مشتركة من 27 بلداً سيوفر ضمانات أكثر، مما لو ذهب كل بلد إلى المعركة بمفرده في مواجهة هؤلاء العمالقة الاقتصاديين.
ويذكر هنا، أن رأسملة «جافا» (جوجل، وآبل، وفيسبوك، وأمازون) في البورصة تبلغ 3 آلاف مليار دولار، أي ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي الألماني، وما يناهز الناتج المحلي الفرنسي بمرة وربع.
غير أن لومير، فشل في توحيد الأوروبيين، ذلك أن عدداً من البلدان الأوروبية ما زالت مترددة بشأن نظام ضريبي أوروبي مشترك، وخاصةً أن بعضها يمارس «الإغراق الضريبي» لجلب هذه الشركات إليه، ومن جانبهم، يخشى الألمان رداً أميركياً بضرائب عالية جداً على صادراتهم من السيارات، والتي تعني الكثير بالنسبة لهم، في حال فرض ضرائب أوروبية على «جافا». ولا شك أن الصين لديها أيضاً عمالقتها الإلكترونيون الخاصون بها، لكن الأميركيين هم الحاضر الأكبر في أوروبا.
وهكذا، قررت فرنسا التحرك بشكل منفرد، عبر خلق ضريبة بنسبة 3%، على رقم المعاملات الذي تحققه الشركات الرقمية على ترابها.
والواقع أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لا يكن الود لهذه الشركات، لكنه يكره أكثر فكرة أن يقوم بلد أجنبي بفرض ضرائب على شركات أميركية، ولهذا، سارع إلى التنديد مبكراً بهذا الإجراء، وأعلن وزير التجارة الأميركي، روبرت لايتهايزر، عن بدء إجراءات طبقاً للبند 301 من قانون التجارة الأميركي لعام 1974، الذي يسمح للرئيس بالرد على ممارسات وضرائب تجارية مجحفة بحق المصالح الأميركية، وهي خطوة احتج عليها لومير، الذي أكد أن فرنسا مارست حقاً سيادياً، من خلال تحديد ضرائبها، وأن الخلافات بين الحلفاء لا تحل عبر التهديدات، فهل نحن مقبلون على حرب تجارية بين فرنسا والولايات المتحدة، شبيهة بتلك الدائرة رحاها مع الصين؟
من الناحية التجارية، لدى الأوروبيين تجاه الصين مؤاخذات مماثلة لتلك التي لدى واشنطن؛ فمن الناحية التجارية (وليس من الناحية المالية)، فإن الاتحاد الأوروبي هو صاحب الاختصاص، بيد أنه بدلاً من تشكيل جبهة مشتركة في مواجهة بكين، قررت واشنطن مهاجمة الصين والاتحاد الأوروبي، ذلك أنه بالنسبة لترامب، هناك شيء واحد هو الأهم: الميزان التجاري، وهذا الأخير يعاني من عجز يناهز 400 مليار دولار مع الصين، و170 مليار دولار مع الاتحاد الأوروبي، وبالتالي، فإن علاقات التحالف تصبح معطلة ومختلة في نظره.
ورغم أنهم حلفاء استراتيجيون في «الناتو» منذ سبعين عاماً، فإن ترامب لم يتردد في إعلان الأوروبيين أعداء اقتصاديين، وهؤلاء يشعرون بالقلق والارتباك إزاء هذه المعاملة العدائية من قبل واشنطن، فهل ينبغي لهم البقاء دون رد فعل باسم اعتماد استراتيجي مرتبط بالتاريخ أكثر من ارتباطه باحتياجات حقيقية؟ وهل سيكون ترامب في نهاية المطاف الشخص الذي يتسبب في وعي أوروبي، يسمح بالتوجه نحو هذه الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية، التي قيل عنها الكثير، ولم تنفذ أبداً؟

*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية -باريس