ضمن مجموعة من المقترحات الهادفة لتحسين ورفع مستوى الصحة العامة في بريطانيا، سيتم تكليف عدد من وزراء الحكومة البريطانية وعلى رأسهم وزير الصحة، بتقديم توصيات تتعلق بعدد ساعات النوم التي يجب أن يحصل عليها الشخص في اليوم. ويأتي هذا المقترح على خلفية تراكم الأدلة التي تظهر وجود علاقة وطيدة بين قلة النوم وبين العديد من المشاكل الصحية الجسدية والنفسية، بما في ذلك زيادة احتمالات الإصابة بزيادة الوزن والسمنة، وبالسكتة الدماغية والذبحة الصدرية، بالإضافة إلى الاكتئاب والقلق المفرط.
وعلى حسب مسودة المقترحات التي اطلعت عليها صحيفة «التايمز» الشهيرة، لا يحصل ثلاثة من كل أربعة من البريطانيين على سبع ساعات من النوم خلال الليل. ولا يختلف الوضع في غالبية دول العالم عما هو عليه في بريطانيا، حيث يعتقد العلماء أن المجتمعات الإنسانية الحديثة، تعاني أزمة نوم عالمية بكل المقاييس، كون جزء كبير من أفراد المجتمعات الحديثة يعاني حالياً بالفعل نقصاً مزمناً من النوم، وهو ما يؤثر على الحالة الصحية، والجسدية والنفسية لهؤلاء الأفراد. ويعود السبب في هذه الأزمة إلى انتشار الإضاءة الاصطناعية، التي أصبحت تمكننا من الحركة وممارسة نشاطات عدة خلال ساعات الليل. وفي السنوات الأخيرة، أدى انتشار وسائل الترفيه، مثل أجهزة التلفاز، ومؤخرا شبكة الإنترنت والهواتف الذكية وما يوفرانه من ترفيه وتواصل اجتماعي، إلى الدفع تدريجياً بوقت الخلود للنوم إلى ساعات متأخرة أكثر وأكثر.
هذا التعارض والتضاد، بين ما يتيحه –أو يفرضه أحياناً- نمط الحياة الحديثة، وبين احتياجات الجسم البيولوجية، وتأدية بعض الوظائف الفسيولوجية أثناء فترة النوم، يعتقد الكثيرون أنه أحد أسباب انتشار الأمراض المزمنة حالياً بين أفراد الجنس البشري. وبالفعل أظهرت الدراسات العلمية أن الأشخاص الذين يعملون في وظائف تقتضي بقاءهم مستيقظين لوقت متأخر من الليل، أو الذين يعملون في نوبات عمل متغيرة الأوقات، مما يؤدي إلى اضطراب نمط نومهم بشكل دائم، يعانون معدلات أعلى من الإصابة بداء السكري، أحد أهم الأمراض المزمنة التي يعانيها إنسان العصر الحديث.
وتنص الحكمة السائدة حالياً، على أن الجسم البشري يحتاج إلى ما بين سبع إلى تسع ساعات من النوم يومياً، حتى يتمكن من الاستمرار في أداء مهامه العقلية بشكل جيد، ولكي يستطيع الحفاظ على وظائفه الحيوية ضمن نطاقها الطبيعي. وبناء على أن جزءاً كبيراً من أفراد العديد من الشعوب والمجتمعات لا يحظى بهذا القدر من الراحة حالياً، ضمن شكل من أشكال فقر أو عوز النوم المزمن، يتكلف الاقتصاد العالمي تكلفة اقتصادية باهظة تقدر بمئات المليارات، وربما حتى التريليونات. وهذه الحقيقة أكدها تقرير صدر في 2016 عن الفرع الأوروبي للمؤسسة البحثية «راند أوروبا»، حيث قُدّر أن قلة النوم تكلف الاقتصاد الأميركي نحو 1.2 مليون يوم عمل سنوياً، وبقيمة فاقد في الإنتاجية تبلغ 411 مليار دولار، أو ما يعادل 2.28 في المئة من مجمل الناتج الاقتصادي الوطني. وعلى المنوال نفسه، تكلف أيضاً قلة النوم الاقتصاد الياباني نحو 600 ألف يوم عمل سنوياً، وبقيمة فاقد في الإنتاجية تبلغ 138 مليار دولار، أي ما يعادل 2.92 في المئة من مجمل الناتج الاقتصادي الوطني الياباني.
ومؤخرا تزايد الإدراك بأن المجتمع البشري الحديث لا يعير الكثير من الاهتمام للساعة البيولوجية لجسم الإنسان، خصوصاً للمراهقين، وهذا ما يجعلهم في حالة مزمنة من فقر أو عَوَز النوم، مما يعتبره البعض قضية اجتماعية بالغة الأهمية. والساعة البيولوجية هذه هي جدول أو نسق زمني بيولوجي، متكرر في دورات متطابقة، يتيح للإنسان تنسيق العمليات البيولوجية، والسلوك العام، بشكل متوافق ومتزامن مع التغيرات اليومية، مثل مستوى الإضاءة، ودرجة الحرارة، وأوقات النوم والراحة، خلال اليوم وعبر فصول السنة المختلفة.
ويختلف النسق اليومي لدى المراهقين، كون الساعة البيولوجية لدى هذه الفئة العمرية تعمل بتأخير يصل إلى ساعتين مقارنة بالبالغين، بسبب ما يعرف علميا بتأخر مرحلة النوم، وهو ما يجعلهم أكثر تنبها ويقظة في الساعات المتأخرة من الليل، ويُصعّب عليهم النوم قبل منتصف الليل بقليل. وبما أن الغالبية العظمى من المراهقين، يضطرون للاستيقاظ في ساعات الصباح الباكر لبدء يومهم الدراسي، يُصبح من الصعب عليهم الحصول على عدد ساعات النوم التي يحتاجون إليها، وهو ما يجعلهم في حالة شبه دائمة من فقر أو عَوَز النوم، ويؤثر على نسقهم البيولوجي اليومي، وعلى قدرتهم على التعلم والاستيعاب، وعلى حالتهم الصحية بوجه عام.
*كاتب متخصص في الشؤون العلمية والطبية