كرّر الرئيس التركي المشهد، ومعه لغة التهديد بإرسال جيشه إلى شمال شرقي سوريا لإقامة «منطقة آمنة» بالقوة، ما لم تخفّض الولايات المتحدة شروطها للتوصّل إلى اتفاق في شأن تلك المنطقة. وعندما كان يتحدّث كانت هناك مفاوضات جارية مع وفد البنتاجون، وكانت أنقرة حشدت قواتها فعلاً، وأوحت بأن تحركها وشيك، لكن وزير الدفاع الأميركي جاء سريعاً وواضحاً: «أي تحرّك أحادي من جانبهم (الأتراك) سيكون غير مقبول»، و«سنمنع أي توغّل من شأنه أن يؤثّر في المصالح المشتركة» للجانبين بالإضافة إلى «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد). في اليوم التالي ولد الاتفاق على إنشاء «مركز عمليات مشتركة»، في أقرب وقت، لتنسيق إقامة «المنطقة الآمنة» وإدارتها. رحّبت أنقرة بما وصفته اقتراب واشنطن من وجهة نظرها كما لو أن التهديد الأردوغاني قد أفاد. وفيما يُعتبر هذا الاتفاق بمثابة بداية رسمية لاعتراف وموافقة أميركيين على «المنطقة الآمنة» تنبغي مراقبة وتيرة التنفيذ لقياس حجم الجدّية إلى مدى الثقة التي بُنيت خلال المفاوضات.
ليست هذه المرّة الأولى التي يتفق فيها الطرفان ويتبيّن أن الأميركيين يحاولون فقط منع تفجّر العلاقة بينهما، إذ يعود البحث في «منطقة آمنة» والخلافات عليها إلى أيام إدارة أوباما التي بادرت إلى رفضها وحثّت الحلف الأطلسي على عدم تداولها، وحين ألحّت أنقرة آنذاك استخدمت واشنطن المماطلة، وبعدما تدخّلت روسيا في سوريا خريف 2015 طوي الملف، خصوصاً بعدما أسقطت تركيا طائرة «سوخوي» ودخلت في قطيعة متوتّرة مع روسيا. وعندما جرت المصالحة بين فلاديمير بوتين وأردوغان صيف 2016 كان «المنطقة الآمنة» بين المسائل التي وضعها الرئيس التركي على الطاولة، ولم يرفضها نظيره الروسي أو يوافق عليها، فالمنطقة كانت لا تزال في أيدي «داعش» والحرب على التنظيم في بداياتها، وبالتالي كان مبكراً بالنسبة إلى بوتين منح التزامات جدّية في شأن منطقة يعمل فيها الأميركيون معتمدين على «قسد» التي حرصت موسكو على إقامة اتصالات معها.
لم تتقبّل تركيا يوماً وجود «قسد» واعتبرت، عن خطأ أو صواب، أن واشنطن اعتمدتها كـ«بديل» منها. ففي أواخر 2014 كان الأميركيون يبحثون عن قوات على الأرض تساند حملاتها الجوية، وحاولوا استقطاب مقاتلين من المعارضة السورية شرط انصرافهم عن محاربة النظام والانخراط فقط في محاربة «داعش»، لكن الضغط التركي على المعارضة أحبط هذا المسعى. ثم جرّب الأميركيون التفاهم مع تركيا فحالت شروطها الكثيرة والمعقّدة دون الاتفاق، إذ عرضت تولّي محاربة «داعش» لقاء استجابة هاجسها باستكمال الحرب على الأكراد، وخصوصاً إبعاد خطر «حزب العمال الكردستاني» الذي كان بدأ التغلغل في «وحدات الحماية الكردية» قبل أن يُضمّ إليها مقاتلون عرب لتصبح «قوات سوريا الديمقراطية»، وإنْ بقيت الهيمنة الكردية عليها واضحة.
عشية الاتفاق الأخير مع أنقرة سلمت واشنطن إلى قيادة «قسد» آليات ومعدات عسكرية جديدة، بالتزامن مع نشرها تقريراً يفيد بأن تنظيم «داعش» عاود الظهور في شمال شرقي سوريا. فمن جهة، هناك تجديد أميركي لاعتماد «قسد» وإصرار على أن دورها لم ينتهِ، لذا فهي تحتاج إلى دعم بالعتاد اللازم للتعامل مع الخلايا المتطرفة. ومن جهة أخرى، هناك إرادة أميركية لإرضاء تركيا في شأن «المنطقة الآمنة» بشرط ألا تكون منطلقاً للهجوم على الأكراد، ومع الأخذ في الاعتبار أن لا تتخطّى أهداف منطقة النفوذ التركي هذه نطاق الإجراءات الضرورية لتبديد المخاوف الأمنية التركية.
يعتقد مراقبون أن ثمة تفاهماً أميركياً - روسياً على أن تكون «المنطقة الآمنة» شريطاً عازلاً لإبعاد المقاتلين الأكراد عن الحدود التركية، لذلك جرى تقليصها من عمق 30 كيلومتراً كما كان متداولاً أميركياً منذ أوخر 2018، لتصبح وفقاً للاقتراحات الأميركية الأخيرة شريطاً منزوع السلاح بعمق خمسة كيلومترات يعزّزه شريط آخر خالٍ من الأسلحة الثقيلة لمسافة تسعة كيلومترات، أي أن المنطقة ستكون أقل من نصف المساحة التي طالبت بها تركيا. من المرجّح أن تكون تعديلات أدخلت إلى هذا الاقتراح، نظراً إلى أن تركيا تريد استخدام «المنطقة الآمنة» لإعادة أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين. ومع ذلك بقيت هذه النقطة غير محسومة، أسوةً بنقطة أخرى تتعلّق بالطرف الذي سيشرف على هذه المنطقة، ولا يبدو الأميركيون موافقين على «سلطة مطلقة» طلبتها أنقرة مستندة إلى وعد ناله أردوغان من دونالد ترامب، يوم كان الأخير يبحث عن انسحاب سريع من سوريا، لكن الظروف تغيّرت.