مرت تركيا بتقلبات طويلة منذ اختيار مؤسسها الحديث مصطفى كمال أتاتورك التخلي عن الخلافة العثمانية الفاشلة وتأسيس الدولة التركية الحديثة، وصولاً لحكم الإسلامويين و«الإخوان» بقيادة أردوغان، تغيرت أولويات واشتعلت خلافات وتقلبت تحالفاتٍ، وانتهت جميعاً بوصول السيد رجب طيب أردوغان لرئاسة الحكومة ثم لرئاسة الدولة.
نجاحه الاقتصادي وتحالفاته الناجحة أوصلته للقمة، ولكنه لحلم خالجه وأيديولوجيا امتلكته حول نجاحه الاقتصادي إلى فشل تحكي به الأرقام والميزانيات وأحوال تركيا اليوم، وهو فضّل التفرد بما يظنه مجداً فانقلب على كل حلفائه وقادته ومناصريه، فتنكّر لنجم الدين أربكان، وأقصى كل مناصريه من رفقاء دربه ومناصري حزبه من عبد الله غول إلى أحمد داوود أوغلو، وتفرغ أخيراً لمعلمه وداعمه الأكبر فتح الله غولن، فحاربه وحارب أنصاره ولاحقه في كل العالم في محاولة للقضاء المبرم عليه.
أردوغان في سبيل الوصول إلى السلطة كان براغماتياً وبنى التحالفات وقدم التنازلات لا لحلفائه فحسب بل ولخصومه ولكنه بعد الاستحواذ عليها انقلب إلى شخصٍ مختلفٍ تماماً، فصار يبطش بالمقربين قبل الأبعدين، ويذل الحلفاء أكثر مما يخشى الخصوم.
العملة التركية في أسوأ أحوالها، والاقتصاد التركي يعاني، وتركيا الأردوغانية أبعد ما تكون عن الانضمام للاتحاد الأوروبي، ومحاولاته البائسة لتحريك الأقليات التركية داخل أوروبا تمثل فشلاً ذريعاً يعود على تركيا الدولة بالخسارة، وهو يحاول أن يحظى بمكانة لدى روسيا ولدى أميركا ولكنه يعجز عن خلق أي وفاق منقذ لتركيا بوضع قدم في كل جانب. الأكراد جزء مهم من مواطني تركيا، وهو لا يجد أي طريق حضاري للتعامل معهم ومنحهم حقوقهم واستقطابهم، ولكنه يحسن التهديد بغزوهم في سوريا والعراق، واستخدام قوة الجيش التركي في معارك خاسرة، لأنه عاجز عن التوافق مع أميركا وروسيا بشأن المنطقة الآمنة شمال سوريا.
إن تحالفه السابق مع جماعات الإرهاب في الشمال السوري من جبهة «النصرة» إلى تنظيم «داعش» جعله يساهم في نقل الإرهابيين من بلد إلى آخر، ما يضر بالدولة التركية ومصالحها.
أردوغان بدأ بنشر قواعد عسكرية في قطر والسودان والصومال، وأغوته أكثر بالسيطرة على ليبيا ومعاداة مصر والاحتشاد ضد دول الخليج، ولكنه لم يحصد من ذلك كله إلا خسائر متراكمة ومليارات ضائعة، فهو بلا دور في قطر المحاصرة، وهو مطرودٌ من السودان الجديد، وقاعدته في الصومال بلا فائدة وهو يهزم ويخسر كل يوم في ليبيا.
كل هذه المغامرات غير المحسوبة أودت به للحيرة والاضطراب، فداخلياً خسر أهم مدينة في بلاده وهي إسطنبول في انتخابات أعيدت مرتين وتضاعفت فيها خسائره، ومُني بانقسامات مهمة داخل حزبه، وتفوق عليه خصومه في أكثر من معركة، وتحالفاته الخارجية مع إيران وقطر وجماعة «الإخوان» زادت السخط الداخلي عليه، وأصبح المواطنون الأتراك يرون فيه مغامراً لا يحقق مصلحة بلادهم.
تركيا الحليفة لأميركا والعضو في حلف الأطلسي أصبحت في مهب بالأوهام، فهو ينقلها بقرار تلو قرارٍ لتصبح بلا قيمة ومن دون أي تأثيرٍ، لمجرد أوهامٍ مسيطرة وأحلام شخصيةٍ غير ذات قيمة.
انتهاكات القانون الدولي والتهديدات الجوفاء باستعراض القوة وتهديد الدول المستقلة مثل ما يجري في ليبيا لا تعين تركيا لتثبت نفسها دولة مؤثرة وفاعلة بل هي مجرد تدخل عسكري في بلدٍ مستقل لدعم الإرهاب والأصولية، وهو ما ستدفع تركيا ثمنه غالياً.