أتابع قناة «الجزيرة» القطرية، ليس لأنها مصدر للحقيقة، بل لأنها مصدر للأكاذيب وللشائعات المغرضة في هذه الأيام أكثر من كل أيام تاريخها. لقد أصابتهم المقاطعة بجنون كامل. ومع هذا أتابعها لأن أكاذيبها مادة خصبة للدراسة والتحليل، وهذا ما يحتاجه الكاتب والباحثون أحياناً. في أية ساعة من ليل أو نهار، عندما تجلس أمام هذه المحطة، ستجد أن معظم أخبارها عن السعودية والإمارات، وعندما تنتهي هذه الأخبار تظن لوهلة أنهم اكتفوا وأنهم سينتقلون لمواضيع أخرى، لكن تتفاجأ بأنه لا مواضيع أخرى، إلا أن تكون هجوماً على مصر والرئيس السيسي أو على ليبيا والمشير خليفة حفتر، ثم ربطهما بالسعودية والإمارات من جديد، في حلقة مفرغة ليس لها مخرج على مدار الليل والنهار وطوال أيام الأسبوع.
لا أعرف اليوم على وجه الأرض قناة إخبارية تستخدم الأناشيد الحماسية وآيات القرآن الكريم في تقرير إخباري إلا قناة «الجزيرة» القطرية، ولا شك أنهم يعرفون أن هذه الممارسات لا علاقة لها بالمهنية ولا علاقة لها بالعمل الإعلامي المحترف، لكنهم اختاروا أن يعزفوا على وتر العاطفة والحماسة لاستقطاب بسطاء الناس، وهذا أسلوب داعشي بامتياز.
ليس لدي ذرة شك في أن المخابرات القطرية هي من تدير هذه المحطة كما تدار غرفة العمليات العسكرية، لكنها مخابرات صبيانية بكل ما تعنيه الكلمة، كالطفل الذي يبكي لأجل أن يُعطى قطعة حلوى. قطعة الحلوى بالنسبة لهؤلاء «الصبية» هي أن ينالوا من قوة التحالف بين السعودية والإمارات، لكنهم سيظلون يبكون ليل نهار أملاً في أن تتحقق أمنيتهم تلك دون جدوى. فهذا التحالف عرّى دعمهم للإرهاب وكشف اتصالاتهم الخفية بالدولة العميقة في دول عدة عظمى، وهو الذي كشف خطط النظام القطري من أجل تدمير العالم العربي، وإخضاعه للقوى الإقليمية بوساطة دعم الاضطرابات التي يسمونها «ثورات»، ومن هنا نفهم تململهم من التحالف السعودي الإماراتي وانزعاجهم منه.
لكن المشكلة التي سيظلون يواجهونها هي أن أمنيتهم مستحيلة؛ فالحلف السعودي الإماراتي يقوم على شبكة هائلة من الأسباب الحقيقية والمصالح الواقعية وحقائق التاريخ والجغرافيا الصلبة، ولم يقم أبداً على موقف عاطفي مجرد وعابر. النظام القطري وحده مَن يعتقد أن السعودية والإمارات طامعتان في الثروة القطرية، رغم أن ما في السعودية والإمارات من ثروة يفوق بكثير ثروة قطر أضعافاً مضاعفة، لذلك راحوا يستعينون بالنظام التركي الطامع في إحياء الخلافة العثمانية وبالنظام الإيراني الذي لا يزال يطلب ثأره من «يزيد» الذي مات قبل ثلاثة عشر قرناً.. بينما كل العقلاء في الخليج يعلمون أن الشقيقة الكبرى السعودية هي عمقهم الاستراتيجي، وهم عمقها الاستراتيجي أيضاً، وإذا تضررت أية دولة خليجية فستتضرر أخواتها بالمثل.
قياداتنا العليا في كل من السعودية والإمارات تدرك تمام الإدراك أن المصير واحد، وأن مستقبل البلدين لا يمكن أن ينفصل، لذلك نجد الإمارات والسعودية في خندق واحد، وعندما تقرران خوض الحرب لظروف ودواعٍ معينة، فإنهما ستسيران في طريق واحد، وعندما تختاران السلم (وهو الأصل لديهما)، فإنهما كذلك ستسيران في طريق واحد أيضاً. وفي كل المعارك، سواء أكانت عسكرية أم سياسية، ستبقى الدولتان على خط واحد، سياسياً واستراتيجياً، وهي حقيقة أرجو أن تتضح تماماً للقارئ العربي، فلا يلتفت إلى نعيق البوم الذي لا يكاد يتوقف هذه الأيام في وسائل الإعلام القطَرية والوسائل الإعلامية الممولة قطَرياً.