الحج، هذا الركن عظيم الشأن الذي يبرز في الكتاب الكريم اسماً وعلماً لسورة بذاتها، حاملاً في جنباته العَطرة، وشعائره المقدسة رسائل ربانية للمسلمين كافةً، لا تنحصر على حجاج بيته الحرام وحسب، ناقلةً لأفئدة العالم الإسلامي قبل عقولهم، بوصلة صناعة المجتمع والإنسان ليحيا بدينه ويؤدي رسالته على أكمل الأشكال وأمثلها.
إن موسم الحج بما ينقله لنا من صور تقشعر لها الأبدان، وتغرغر لعظمتها المقل، باجتماع أفواج المسلمين، القادمة من كل حدب وصوب، متوجهين لبيت الله بأفئدة لا يشغلها إلا ذكره وعبادته، بسمو عن كل ترهات الحياة، ومفاصل الاختلاف فيها، يعتبر بمثابة تذكير للمسلم الواعي، وتهيئة لنفسه، بتقديم ما عليه من مسؤولية كفرد، في إصلاح نفسه ومجاهدتها ببذل الغالي والنفيس لتقويمها وتقييمها، ثم التكاتف مع إخوته في الإنسانية للقيام بمجتمعه والسعي لرفعته وسموه وصونه، والعلو فوق كل ما يفرق، والإقبال والحرص على كل ما يوحد الأفكار والأهداف، إذ إن وجود مجتمع آمن، متعايش متماسك متسامح يعني بالضرورة فتح المجال لأبنائه للنهل والنفع من جوانب الخير بلا معوقات، ومحدّرات.
يقول الله جل في علاه في سورة البقرة: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ»، فإذا أحرم الحاج وجب عليه تعظيم هذا الركن العظيم، من أركان الإسلام، فيصونه عن كل ما يفسده أو ينقصه من الرفث والفسوق والجدال، وأما الجدال فيكون في موضعين، أولهما يتعلق بمشاعر الحج ومواسمه وأعماله، فهي موضحة من رب العالمين، بمعالمها ونسكها وأحكامها، وعلى المسلمين أن يتأسوا بنبي الرحمة محمد ? في ذلك وأن يحجوا كما حج، وتنعدم هنا الحاجة للجدال. أما الموضع الثاني، فيحرم الجدال الناشئ بين الناس، إثر الخصومات والشحناء أو المضاربة والقتال، فإذا أفضى التحدث إلى الجدال ينبغي على المسلم أن يترك الأمر مجتنباً التوسع فيه.
وكما ينبغي على المسلم مع إخوانه في الحج أن يتجنبوا نوعي الجدال المذكورين آنفاً، تحقيقاً لأداء حجتهم سليمة وبعيدة عما يؤثر عليها من رفث أو فسوق أو جدال، كان على المسلمين أجمع التمعن فيما نهى الله عنه في هذا الموضع والحذو على خطى الحكم الربانية، الانصياع لأوامر الخالق عز وجل لبالغ حكمته وعلمه في مستلزمات إعمار الأرض ونصرة الرسالة في نفوسهم وحثهم على المشاركة في ذلك والانخراط فيه، كلٌّ بحسب ما أوتي من وسائل وأسباب، وما تيسّر له من إمكانات وطاقات.
إن لأركان الحج الأربعة التي يقوم عليها، رسائل عظيمة وتوجيهات بالغة المقاصد ابتداء من الإحرام، مشترط نية الدخول في النسك من قول النبي ?: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»، الذي يربي النفس على استحضار النوايا، لمضاعفة الإخلاص في العمل. ثم الوقوف بعرفة لقوله ?: «الحج عرفة، من جاء قبل طلوع الفجر فقد أدرك»، للاستشعار بالاستسلام للخالق، وللتذكير بيوم يقف فيه المسلم بين يدي الله عز وجل، ثم يليه طواف الإفاضة، لقوله تعالى: «ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق»، ليقدم للمسلم درساً ملزماً بالالتزام، ورابعاً السعي بين الصفا والمروة لقوله ?: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي»، الذي يزرع في الإنسان بكل خطوة يخطوها شغفاً لتقديم صادق النوايا وحسن الظن بالله، علّه يفعل كما فعلت هاجر -رضي الله عنها- ويقنع بأن على الإنسان مواصلة السعي الدؤوب المعقود باليقين بقدرة الله التي تسبقها رحمته تعالى.
ونهايةً للمقال، وبدايةً من صفحة جديدة في حياة كل منا، لابد تطبيق العِبر ونهل الخير من مظاهر هذا الركن العظيم، ليتساوى فيها المسلمون فوق كل تمييز أو عوامل فرقة، وليسموا بنواياهم وقلوبهم الطاهرة البيضاء على «الأصل والفصل» واللون وماركة اللباس، وللعيش بمبدأ قدّم الآن أقصى ما استطعت من إحسان، وتذكر يوم تفيض إلى لقاء ذي العرش المجيد، تاركاً أعمالك وأهلك وأرضك ومقتنياتك وشهواتك قاصداً رحمته ومغفرته بقلبٍ امتلأ بمحبة الله، مطيعاً لأوامره، مجتنباً نواهيه، لا يريد ثناء أو شكوراً من أحد فقط دون رضا الله تعالى، قابل راضٍ بحكمه، واضعاً نصب عينيه أهدافاً تسمو بها الإنسانية ابتداءً منه نفسه، لينال إخلاص تلبيته مستحقاً «حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً».