في كل مرة يدفع الأبرياء العزّل ثمن الإرهاب الذي يضرب المجتمعات ويحصد أرواح العشرات فيها. وحتى اليوم لم يخلُ أي مجتمع كان من تلك الكارثة التي تهدد أمنه وسلامته. وعديدة هي الجرائم والمجازر التي تُرتكب وتتسبّب بخسارات فادحة، فتُفقد الناس صوابهم وطمأنينتهم. ومؤخراً سمعنا أخباراً عن جرائم لا يمكننا إلا أن ندرجها في خانة الكراهية للسلم الأهلي، وهنا لا تفرقة بين مجرمين ينتمون إلى دول عالم أول أو ثانٍ أو ثالث.
في الأسبوع الماضي وبعد منتصف الليل بقليل اهتزت منطقة القصر العيني وسط القاهرة وما جاورها من أحياء إثر انفجار هائل ضرب مبنى معهد الأورام العريق الذي يؤمه يومياً مئات المرضى الباحثين عن أملٍ وعلاج لهم من مرض خبيث، وإذ بالمرضى في تلك الليلة الدّهماء يواجهون خطر الموت على يد سرطان آخر أشد خبثاً ووضاعة.
عقب تلك الجريمة تداعى المصريون لإعانة بعضهم. وكعادتهم - عندما يمتحنهم القدر- يسارعون إلى إظهار أجمل صور قيم التعاون والتراحم فيما بينهم، ليجسدوا معنى التلاحم المجتمعي الحقيقي، فهُرع الآلاف منهم نحو عين المكان لمد يد العون للجرحى والمصابين، ولا شك أن تلك العملية الإرهابية أصابتنا جميعاً بألم شديد، ومرارة كبيرة.
ورغم كل المحاولات الجادة الهادفة إلى وقف أعمال العنف والترهيب ضد الأبرياء، إلا أن المجرمين ما يزالون يعبثون بأمن بلداننا ومجتمعاتنا، والأنكى من ذلك أنهم يعملون كثيراً في سبيل تجنيد الناشئة وتوريطهم في أعمال إرهابية، ضاربين عرض الحائط بقيم الأديان التي تدعو الإنسان إلى المحبة والتسامح، وهم الذين يسعون في كل زمان ومكان إلى زعزعة الأمن وتخريب الممتلكات العامة وقتل الناس، وإلى جانب ذلك تشويه قيم الدين الإسلامي.
وباسم الدين ينتشر وباء الإرهاب في العالم كانتشار النار في الهشيم، ليؤدي عبر منفّذيه إلى أبشع الجرائم التي تضر بالمصلحة العامة للناس والدول على حدّ سواء، ومع أن الإرهابيين - وإلى أي جهة كانت ينتمون - لا يستطيعون تحقيق أهدافهم، إلا أنهم يستمرون في طغيانهم، ويمارسون عنفهم ضد الضحايا. وإزاء أعمالهم الإرهابية تسعى الحكومات عبر أجهزتها المعنية إلى وقف امتدادهم السرطاني، مُحاولةً تجفيف منابع فكر الإرهاب وطرائق تمويله.
إن المسؤولية في التصدي لذاك الفكر لا تقع ضمن اختصاص دائرة المؤسسات الأمنية وحسب، إنما تقع أولاً على عاتق كل مؤسسة رسمية وأهلية تعليمية وثقافية وإعلامية ودينية واجتماعية، فالفكر الخارج عن القانون وقواعد الإنسانية يحتاج إلى فكر مضاد له يقوم على أسس سليمة كي يحقق نتائجه. ذلك أن الفائدة التي نجنيها من معاقبة الجناة هي اتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم فقط، أما مؤيّدوهم والعاملون في أكنافهم والناشئين على فكرهم إنّما يبقون بعيدين عن دائرة القضاء إلى أن يأتي الوقت لينفذوا أجندتهم الفاسدة والمفسدة.
ولعلّي لا أذيع سراً عندما أشير إلى أن الدراسات البحثية كشفت عن أن 60% من العناصر التي نفذت عمليات إرهابية تم تجنيدها عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. وللتصدي لدعوات الإرهابيين لا بد من بذل مزيد من الجهد في جميع الفضاءات، وفي مقدمتها الفضاءان التعليمي والإلكتروني.
وثمة نقطة جوهرية أدعو للتوقف عندها كذلك. فدائماً ما يتردد في وسائل الإعلام بأن العالم متحد في مواجهة ظاهرة الإرهاب، وهذا ادعاء غير صحيح، وخدعة أتمنى ألا تنطلي على الرأي العام، إذ توجد دول ومنظمات تدعم الإرهاب والإرهابيين بجميع الوسائل، وتوفر لهم الملاذات الآمنة، متجاوزة وإياهم كل القيم والمعتقدات والحدود والمحرمات، وبالتالي ومن هنا فإن هذه الظاهرة تتطلب لمواجهتها موقفاً حازماً وحاسماً.
وفي ظرفنا الحالي، ووقتنا الراهن علينا أن نتكاتف، شعوباً وحكومات لنكون إلى جانب كل بلد يغدر به الإرهاب ويطعنه ويُسيل دماء أبنائه. وعلينا نحن أبناء الشعوب المحبة للحياة ألا يصيبنا اليأس، فنقدم الدعم المعنوي والمادي لمصر الحبيبة، ولنا فيما قدمته الإمارات لها أسوة حسنة، فقيادتها ممثلة بصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد رئيس الدولة،حفظه الله، لم تتوقف عند حدّ الإدانة، إنما ذهبت بعيداً في التبرع، وهو الموقف الذي تبناه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ليس فقط من خلال تبرعه لإعادة إعمار معهد الأورام، وإنما من خلال فحوى رسالة وجهها إلى الإرهابيين، حيث إن الإمارات ثابتة على موقفها ضد الإرهاب وفضح إجرام المنتمين إليه، وأنها لن تتوقف عن مساندة مصر، وفي المقابل ثمّنَ هذا الموقف الشارع المصري، بما يؤكد علاقة المحبة الصادقة والخالصة بين شعبي البلدين، فمعادن الناس تُعرف في أوقات الشدة، تلك التي يدركها ويعرف بواطنها المواطن ذو السريرة النقيّة والذكاء الفطري الذي يمكّنه من التمييز بين الغث والسمين، العدو والصديق، المزيف والأصيل.
إن مصر الكنانة بأبنائها ستبقى رمزاً للحياة والعزيمة، وهي العزيزة علينا، والتي حجزت لها موقعاً في القلب لم يترجمه إلّا شاعر النيل حافظ إبراهيم حين تحدث بلسانها قائلاً: (إِنَّني حُرَّةٌ كَسَرتُ قُيودي/رَغمَ رُقبى العِدا وَقَطَّعتُ قِدّي). مصر التي يحق لها أن تقول دائماً: (أَنا تاجُ العَلاءِ في مَفرِقِ الشَرقِ/ وَدُرّاتُهُ فَرائِدُ عِقدي).