تدين الحضارة للتجارة في تطورها وفي السلام والتفاهمات والتبادل الثقافي والمعرفي كما التجاري، لكن الأسواق والأعمال اليوم تدخل في مرحلة من عدم اليقين، وبرغم أنها كانت تقود السياسة على الدوام فإنها اليوم في تحولاتها وارتباكاتها تدفع السياسة أيضا إلى المغامرة والمجهول، وليست الأزمة المتفاقمة بين الولايات المتحدة والصين سوى واحدة من تجليات الغموض والارتباك في الأسواق العالمية واتجاهاتها.
لم يتوقف العالم على مدى التاريخ عن تبادل السلع، ولم تكن العولمة التجارية حدثاً طارئاً، فقد ظلت طريق الحرير في مساريها البري والبحري على مدى آلاف السنين يتحرك من خلالها بين المدن والأقاليم على امتداد آسيا وأفريقيا وأوروبا القماش والتوابل والنحاس والحديد والخشب والعطور والصوف والحرير،.. كما القصص والكتب والعلوم والفنون، ولم تغير السياسة والحروب والصراعات والجيوش في مسار التجارة والثقافة، فالتجارة هي الدبلوماسية العالمية أو كما وصفها فلاسفة اقتصاديون هي هدية السماء للناس كي يعرفوا طريق السلام والازدهار!
لكن يواجه التكامل التجاري والصناعي العالمي اليوم تحديات كبرى، وتشعر الولايات المتحدة أنها تخسر كثيراً بسبب اللعبة التجارية والإنتاجية العالمية التي تتحرك متخطية الحدود لأجل تخفيض الكلفة، وتبحث عن الأجور الأقل، وفي المقابل فقد تداخلت العمليات الإنتاجية والتجارية، وتوسعت الروابط وأنظمة سلاسل الإنتاج العالمية، وأصبح السؤال العملي هو عن حمايتها وتطويرها وليس التخلي عنها أو تفكيكها.
وعلى سبيل المثال فإن الدراجات الهوائية التي بدأت كآلة عملية بسيطة في أوائل القرن التاسع عشر، تتحول اليوم إلى أكثر أنواع المواصلات شعبية في العالم، ويجري تصنيعها وتسويقها اليوم عبر سلسلة معقدة ومتكاملة من الصناعات المجزأة حول العالم، وزاد الإنتاج العالمي منها من عشرة ملايين وحدة في عام 1950 إلى 130 مليون وحدة. لكن الأكثر أهمية وتعبيراً هو التوزيع الطريف والمعقد لسلسلة الإنتاج والتصنيع، التصميم وبناء النماذج والتصورات الأولية في إيطاليا، وتجميع المكونات في تايوان والصين، وهذه المكونات من المواد وقطع الغيار المتكاملة يجري تصنيعها في الصين وإيطاليا وماليزيا واليابان وانجلترا، وبلدان أخرى كثيرة، على سبيل المثال تصنع الفرامل في اليابان، والقضبان المعدنية في الصين، وتتوزع القيمة المضافة للمنتج النهائي على عدة دول وأقاليم في أوروبا وآسيا وأميركا. لكن هذا التعقيد والتكامل في الإنتاج يحتاج إلى منظومة مكافئة من العلاقات والمعاهدات التجارية بين الدول وأخرى عالمية وإقليمية، كما لم يعد سهلاً أن تنفك منه دولة من طرف واحد، لأنه يشبه الحلقات المتداخلة أو الشبكة المتصلة ببعضها البعض. وعلى سبيل المثال فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أظهر تعقيدات وتداخلات وتبعات لا تجعله مجرد قرار سياسي من طرف واحد، ومؤكد أن حرب الرسوم الجمركية المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة ستؤدي إلى متوالية عالمية لا تتوقف تأثيراتها وحدودها عند البلدين، وسوف يكون لزاماً على القادة السياسيين، كما الاقتصاديين أن يواجهوا تداعيات وآثار لم تكن متوقعة أو لم يحسب حسابها.
تتراجع العمليات الإنتاجية المتكاملة والمسماة سلاسل القيمة العالمية منذ عام 2015 وتعود إلى مستويات أقل مما كانت عليه عند وقوع الأزمة المالية العالمية عام 2008 ومن الملفت جداً أن العولمة وثورة الاتصالات والمعلوماتية التي دفعت بعمليات التكامل وسلاسل القيمة العالمية إلى أقصى مستوى في تاريخ التجارة، هي نفسها تنتج ضدها، فقد صعدت النزعات والهويات الوطنية، كما حدث تقريباً في السياسة عندما أنتجت أزمة الليبرالية الاتجاهات القومية واليمينية واليسارية، وهذه أيضاً في أزمتها أنتجت الأصوليات والأناركية!
لقد اكتسبت العولمة زخماً إيجابياً هائلاً باندماج الاتحاد السوفييتي والصين في الاقتصاد العالمي منذ عام 1990، وفي النمو الاقتصادي السريع للهند وشرق آسيا، لكنها في واقع الحال مشاركة لم تجلب معها الكثير من رأس المال، وإنما ضاعفت قوة العمل العالمية، ودفعت إلى السوق بأعداد هائلة من القوى العاملة بأجور قليلة. واليوم فإن الأجور لم تعد قليلة كما في السابق، وتحل الآلات الذكية محل الإنسان، وتزيد أسعار الطاقة، وإنْ كان العالم يتجه بكثافة نحو الطاقة المتجددة، وتفقد العولمة بريقها! وتتجه الصين التي تدير ثلث التجارة العالمية إلى الاعتماد على الداخل أكثر من سلاسل القيمة العالمية والمكونات المستوردة، فقد انخفضت نسبة استيراد المكونات في السلع المصدرة من 50 في المائة عام 1990 إلى 30 في المائة عام 2015، ولم تنشأ أسواق كبرى جديدة كما حدث من قبل في الصين وأوروبا والشرقية والاتحاد السوفييتي.
إن التجارة كما السياسة لم تعد تدار فقط على أساس التعاون أو التنافس، وتحتاج اليوم أن تعمل على أساس القاعدتين معا، أو بعبارة أخرى أن تحافظ الدول والشركات على الثقة ببعضها البعض دون التخلي عن الحذر والمنافسة، كما التعاون وهي منظومة عمل وعلاقات لم تتكرس بعد على نحو كاف وفاعل.
*كاتب وباحث أردني