عندما تحتد الصراعات بين الدول، فلا يصح الخوض في تحليلها «كحاطب ليل»، بل لا بد من أن تكون الأدوات التحليلية أكثر دقة وأشد حذرا.
هذا ما ينطبق اليوم على العلاقة المتوترة بين أميركا وإيران منذ أكثر من أربعين عاماً متتالية العدد، حتى وصلت أخيرا إلى درجة الصدام العسكري المباشر لولا الدقائق العشر التي فصلت الفتيل عن بارود المدفع.
علاقات الدول لا تبنى على تخرصات بعض المحللين المنفلتين عن عقال الفكر فضلاً عن عقلانيته، فإشعال الحرب  قد يكون سهلا، ولكن إطفاءها يحتاج إلى قوة خارقة يقول المولى جل في علاه:«كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله».

كل دولة في العالم لها حساباتها الخاصة عند بناء قواعد أسس علاقاتها مع الآخرين، فلو ذهبنا إلى رأس العالم المتقدم لحوالي ثلاثة عقود قادمة وفقاً للدراسات المستقبلية، فطبيعة هذه الدولة وهي أميركا بالطبع يشرحها مهندسها فوق الإستراتيجي منذ عهد ريجان وإلى الآن «كيسينجر» يقول عن بلده: «من يتعامل مع أميركا فهو مجنون ومن لا يتعامل معها فمنتحر».
في السياسة لا يعني هذا المعنى المباشر، بل لأن أميركا ليست كأي دولة في العالم، ليس من السهل عدم التعامل معها مهما كان رأيك فيها.
فماذا إذاً عن العلاقة السياسية المصلحية بين أميركا وإيران، رغم عدم وجود علاقة دبلوماسية رسمية معلنة بين البلدين؟!
فالعلاقة المباشرة مضطربة منذ قيام «الثورة» التي أرسلت فرنسا قائدها «الخميني» الذي أشعل أو أحرق إيران عن بعد وتحت أنظار باريس عاصمة النور، فلا بد من أخذ هذه النقطة بعين الاعتبار خاصة عند من ينظرون إلى قضايا السياسة الدولية بعين عوراء بدل استخدام عين البصيرة، وإنْ كانت عمياء.
رغم هذا الانقطاع في العلاقات الرسمية بين الدولتين، فإن اللقاءات غير المباشرة عبر الوسطاء لم تنقطع أبداً ولا في أحلك الظروف، كما أن خيط المصلحة الرفيع لأميركا مع إيران لا زال يحكم النظامين اللذين يبدوان لنا متعاديين وبقوة. ولو عدنا إلى التاريخ المعاصر، وقبل أكثر من نصف قرن لن تجد شيئاً اسمه «إيران» على خريطة الكرة الأرضية، فمن أين جاءت إيران إذا؟!
أصبح لدينا في التاريخ المعاصر «إيرانان»، واحدة صناعة أميركية صنعت سياسياً في عام 1925، وانتهت صلاحيتها في عام 1979، لغرض لعب دور الشرطي العالمي على منطقة الخليج العربي.
النسخة الأخرى أوروبية صنعتها فرنسا وبمباركة جميع الدول الأوروبية ومعها بريطانيا الحليف الإستراتيجي لأميركا.
هنا يكمن قلب الصراع على النفوذ في الخليج العربي ومن ثم الشرق الأوسط ككل. فإيران اليوم والأمس أداة من أدوات الصراع في المنطقة، فهي تنفذ أدواراً للغرب لا يستطيع الغرب وحده القيام بها.
فالغرب كله صامت على تدخلات إيران في لبنان وسوريا والعراق واليمن والبحرين وفي أفريقيا وأميركا اللاتينية، لأنها تخدم الأجندة السياسية للغرب على المدى البعيد.
فعلى دول الخليج التفكير في سيناريو للعب دور محوري أو مواز ومتوازن للتقليل من هذا النفوذ الإيراني المدعوم بطريقة أو بأخرى من أميركا أولاً ومن ثم أوروبا، التي لم تطع أميركا في تمزيق الاتفاق النووي.
لا يصح القول بأن إيران هي الخاسر الأوحد مما يجري في المنطقة أمام أميركا، وهو خداع سياسي يُراد أن ينطلي على دول الخليج التي تملك كل مقومات الاستقرار، وقد صمدت في وجه «ربيع» كشر عن أنياب الشر لاقتلاع بقية السكينة والطمأنينة في منطقة هي الأكثر أمناً في العالم بشهادة أهل الأمن في أميركا التي تبذل قصارى جهدها لإعادة إيران إلى مناطق نفوذها من جديد.