انبهر الفكر العربي المعاصر بتيارات النقد في الفكر الغربي، وأراد السير على منوالها. بدأ الانبهار بمؤسس العصور الحديثة ديكارت في بدايته بالشك في الموروث القديم، أو القاعدة الأولى لمنهجه، ثم البداية بنقطة جديدة هي «الأنا أفكر»، أي البداية بحرية الفكر من دون الالتزام بعقيدة دينية أو سلطة سياسية، لاستنباط الوجود نفسه من الفكر: «أنا أفكر فأنا إذن موجود». ثم عدم قبول أي شيء على أنه حق إن لم يبد للعقل أنه كذلك وبشرط الوضوح والتميز حتى يتخلص من المعطيات والأحكام المسبقة، واستنباط الأفكار بعضها من بعض. ومع ذلك ثمة الأفكار الفطرية المغروزة في النفس، ليس فقط الأفكار الرياضية: الكل أكبر من الجزء، الشيء لا يخرج من اللاشيء.. ولكن أيضا فكرة «الموجود الكامل». ولما كان الوجود ضمن الكمال، فإن الله موجود وهو الموجود الكامل. وظيفة العقل هنا أيضاً تبرير عقائد الإيمان، كما كان الحال عند المتكلمين والفلاسفة. ولما كانت النفس متميزة عن البدن، وكان مصير البدن الفناء.. فإن مصير النفس الخلود. وهو تبرير آخر لخلود النفس كقضية إيمانية.
واستمر تلاميذ ديكارت في هذه الوظيفة للعقل، في الظاهر التفكير وفي الباطن الإيمان عند ليبنتز ومالبرانش. أما سبينوزا فهو الوحيد من تلامذته الذي جعل وظيفة العقل مستقلة عن الإيمان. وكتب بالإضافة إلى كتابه «الأخلاق» كتابه الآخر «رسالة في اللاهوت والسياسة»، والذي أثبت فيه أن حرية الفكر ليست خطراً على الإيمان ولا على سلامة الدول، بل إن القضاء على حرية الفكر فيه خطر على الإيمان وعلى سلامة الدول. فالعقل قادر على إثبات خطأ الكثير من المعتقدات والأفكار الدينية. وينتهي سبينوزا إلى أن نظام العقل هو «مواطن حر في جمهورية حرة».
ثم جاء كانط ضمن فلسفته النقدية بمحاولة جديدة لتأسيس النقد، هدفها استبعاد كل ما يخرج عن الحس. فالعقل النظري لا يستطيع أن يتعامل إلا مع ما يبدو من أجل استبعاد الغيبيات، وما وراء ذلك فهي الأخلاق، أي العقل العلمي، والإرادة الخيرة. وما وراء ذلك هو الجمال الذي يربط بين العقل النظري والعقل العملي أو الغائية، أي التطلع نحو المستقبل. أما الدين في حدود العقل فإنه حضور الخير والشر في الإنسان ثم صراعهما ثم انتصار الخير على الشر. فالدين أيضاً أخلاق في نظره.
ثم تطور النقد من النقد العقلي إلى النقد التاريخي، ومن نقد المفاهيم إلى نقد النصوص، منتهياً إلى إثبات أن كل كتاب في العهد القديم أو في العهد الجديد هو نصوص متعددة، من تدوين عديد من الكتاب جمع صاحب الاسم أو غيره بينها. والفرق بين ساعة إعلان الوحي وتدوينه تتراوح بين قرن وخمسة قرون في حالة التوراة. فقد عاش موسى في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ودونت التوراة أثناء الأسر البابلي في القرن السابع قبل الميلاد، حفاظاً على التراث من الضياع. هناك إذن خمسة قرون بين اللحظتين. وفي حالة الإنجيل تتراوح الفترة الزمنية بين أربعين وستين عاماً في حالة الأناجيل المتقابلة الثلاثة الأولى، وتصل مائة عام في حالة الإنجيل الرابع الذي ضم رسائل بولس وأعمال الحواريين ورؤيا يوحنا والرسائل الكاثوليكية السبعة. ومن أجل تبرير ذلك تم التوحيد بين الوحي والإلهام. فالحواريون ملهمون، أما المسيح فهو نبي مرسل كان ينزل عليه الوحي.
وانتهى النقد التاريخي الغربي للكتب المقدسة إلى تشجيع العقل الإنساني على القيام بمهمة نقد المقدس؛ نصاً ومفهوماً، مما أعطى للعقل مكانته الجديدة أمام النص.