في تعليقه على الأحداث التي تهز حالياً روسيا والصين والهند، يذهب الفيلسوف الفرنسي ليك فري إلى أن هذه المستجدات تبين أن الغرب لا يزال هو الأفق الوحيد للتاريخ والمعنى، وما يقال حول الحداثات البديلة ليس سوى وهم، فالعلاقة عضوية بين مساري التحديث والتغريب.
كلام فري يندرج في سياق الجدل الذي دار في السنوات الماضية حول التجارب الحداثية غير الغربية الناجحة التي تخرج عن سياق معادلة تلازم التحديث الصناعي والتقني والليبرالية الاقتصادية والسياسية، في إطار تحول معياري فكري أساسه قيم الذاتية الفردية والعقلنة التجريبية البيروقراطية.
قبل عقود كثر النقاش حول التجربة اليابانية في جمعها بين الرأسمالية الصناعية النشطة والليبرالية الديمقراطية، مع التجذر في القيم الثقافية الآسيوية، كما جرى النقاش حول أصول التجربة الهندية في مزجها بين الديمقراطية التعددية والنظام الاجتماعي الإقطاعي التراتبي، وفي السنوات الأخيرة كثر الحديث حول التجربة الروسية ما بعد الشيوعية التي اعتمدت نمطاً من الديمقراطية غير الليبرالية في مجتمع متطور صناعياً، كما شكلت التجربة الصينية المذهلة مادة للتفكير في نموذجها الخليط من الرأسمالية الديناميكية والمركزية السياسية.
ما يجمع التجارب الأربع هو الانتقال الناجح نحو نمط ما من التحديث التقني والاقتصادي البيروقراطي، مع اختلاف واضح في طبيعة النظام السياسي وأرضيته الثقافية والحضارية.
السؤال الهام المطروح هنا هو: هل قامت هذه التجارب على أساس اعتماد واستيراد النموذج الحداثي الغربي، أم من خلال بناء مقاربات حداثية بديلة تتناسب والسياقات الاجتماعية والثقافية لهذه البلدان التي تشكل لوحدها قرابة نصف سكان العالم؟
ليس السؤال بالجديد في ذاته، لكنه يطرح هذه الأيام من منطلقات جديدة لها علاقة بالتحديات التي يعرفها المشروع الحداثي الغربي نفسه، في مقوماته المركزية من ذاتية فردية وهوية سياسية قومية وشرعية عقلانية ليبرالية وتدبير للمسألة السياسية الدينية، بما يفسر صعود النزعات الشعبوية والتيارات اليمينية المتشددة والأصولية المحافظة..
وإذا كانت الأدبيات ما بعد الكولونيالية قد سعت منذ عقود إلى تفكيك السردية الغربية، أي فكرة احتكار الغرب للكونية (سرقة التاريخ حسب عبارة جاك غودي)، فإن الدراسات الجديدة حول الحداثات الآسيوية تتجه إلى تبيان أن مسارات التحديث في اليابان والصين والهند لم تتم من خلال استنساخ التجارب الأوربية إكراهاً أو اختياراً، وإنما من خلال ديناميكية تاريخية كونية ساهمت فيها أمم عديدة بشكل يكاد يكون متزامناً، وإن اختلفت الخصوصيات الثقافية والقيمية.
في كتاب صدر مؤخراً للمؤرخ «بيار فرانسوا سيوري» حول الحداثة اليابانية، بعنوان «حداثي لكن ليس غربياً»، بيان جلي على أن مسار التحديث الياباني الذي انطلق مع ثورة الميجي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم يكن تقليداً لنموذج غربي جاهز، بل استكشاف لسبل تحول تاريخي نوعي من خلال المرجعيات القيمية والاجتماعية المحلية. ولقد اختلفت ثورة الميجي المحافظة عن الثورات التقدمية في أوروبا وأميركا، فاستندت إلى بناء دولة قومية حديثة من خلال ابتعاث النظام الإمبراطوري بخلفياته الدينية الرمزية، فاضطلعت الديانة الشنتوية بدور البروتستانتية في نشأة الرأسمالية في أوروبا (أطروحة ماكس فيبر الشهيرة). من هذا المنظور، يمكن أن نقف عند السمات الكونية المشتركة بين الحداثة اليابانية والحداثة الأوروبية من فاعلية إنتاجية وتقنية ومدونة حقوقية إنسانية، لكن مع اختلاف كبير في البنيات الانتروبولوجية العميقة باعتبار غياب مقاييس الذاتية الفردية (التي اعتبرها هيغل مفتاح العصور الحديثة) في التجربة اليابانية التي حافظت على مفهوم أهلي جماعي للرابطة المدنية الاجتماعية، إلى حد أن الهياكل السياسية والاقتصادية والعسكرية ظلت على نجاعتها وتطورها متسمةً بهذا الطابع الأسري الأهلي.
نفس الملاحظة تصدق على الحداثة الصينية التي لم يعد ينظر لها في الكتابات الراهنة على أنها نمط من المزج غير الطبيعي بين رأسمالية السوق ومركزية الحزب الشيوعي المستمدة من الأطروحة الماركسية (نظرية أيديولوجية أوروبية)، بل هي حصيلة استيعاب للآليات والنظم المعاصرة في قوالب ثقافية ومجتمعية شديدة الاختلاف مع المرجعية الغربية.
في هذا الباب نشير إلى أعمال الفيلسوف «فرانسوا جليان» حول الجذور الفكرية العميقة للتجربة الصينية في تصوراتها المغايرة لأصول الفكر الأوروبي، بما يبدو في مستويات ثلاث أساسية: التصور المحايث للوجود الذي لا يعرف مبدأ التعالي والتجاوز، أخلاقيات التكيف والنجاعة في مقابل أخلاقيات الواجب والتعاليم المطلقة، نظام الحكم الجماعي المركزي بدل سلطة التمثيل والانتخاب. ومن هنا يخلص جليان إلى وهم المراهنة على انتقال الصين لليبرالية السياسية والفردية النفعية على الطريقة الغربية، حتى ولو اندمجت الصين بقوة في المنظومة الرأسمالية المعولمة.
هل تنطبق هذه الدروس الآسيوية على تجربة التحديث العربية المتعطلة؟ وهل كان إخفاق هذه التجربة راجعاً إلى الخلل الأصلي في تحديد العلاقة بالنموذج الحداثي الأوروبي؟
لنا عودة للموضوع.