لا خلاف الآن على أن الديمقراطية الغربية تواجه أزمة واسعة من حيث شمولها معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة، والتي كان كل منها يُعد «نموذجاً» تُنصح الدول الأخرى باحتذائه. ولذا تختلف هذه الأزمة عن أزمات واجهت بعض الدول الديمقراطية في مراحل مختلفة، وكانت أكبرها في الربع الثاني من القرن الماضي، حين ظهرت الفاشية والنازية في إيطاليا وألمانيا، وقدمتا «نموذجاً» مغايراً لم ينحسر إلا نتيجة حرب مدمرة راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر.
الأزمة الراهنة أوسع نطاقاً، وربما تكون أعمق أثراً، من سابقتها. تضرب هذه الأزمة معاقل الديمقراطية التمثيلية في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وغيرها. وهى مرشحة للاستمرار لفترة أطول لأنها ما زالت قيد الانتشار، فضلاً عن أنها لا تعود إلى عوامل مؤثرة على هذه الديمقراطية من خارجها فقط، بل إلى اختلالات صارت عميقة في بنيتها، ووظائفها الأساسية أيضاً.
كانت الأزمات السابقة، في الأغلب الأعم، نتيجة متغيرات سياسية واقتصادية مرتبطة بظروف معينة في مرحلة محددة، كما حدث مثلاً في الربع الثاني من القرن الماضي، نتيجة ظلم فادح وقع على الدول المهزومة في الحرب العالمية الأولى. فقد أدى إذلالها في مؤتمر فرساي 1919 إلى وصول أحزاب استطاعت شحذ مشاعر الشعوب المطعونة في كرامتها، للسلطة، ثم الانفراد بها وإلغاء الديمقراطية.
لكن أزمة الديمقراطية الراهنة لا ترتبط بظروف تؤثر فيها سلبياً فقط، بل تعود أيضاً إلى تراكم الاختلالات في بنيتها على مدى عقود، حتى بلغت مبلغاً لا سابق له، لأسباب ثلاثة يرتبط كل منها بالآخر.
أولها تراكم الانفصال بين النخب السياسية والجمهور الذي ينتخبها، وازدياد الشعور في أوساط هذا الجمهور بالاستياء من جمود المؤسسات المنتخبة، وضعف أدائها، وعدم قدرتها على تلبية حاجات قطاعات متزايدة من الشعوب وتطلعاتها.
وثانيها ضعف قدرة المؤسسات السياسية على استيعاب الأجيال الناشئة في ظل ثورة الاتصالات وآثارها العميقة. فلم تستوعب النخب السياسية والحزبية والمجتمعية في هذه الدول أن تداعيات ثورة الاتصالات تفرض تطوير آليات جديدة لاستيعاب القادمين الجدد إلى ساحات العمل العام بها.
ويُعد ازدياد التفاوت الاجتماعي سببا ثالثاً أساسياً لأزمة الديمقراطية، خاصة أنه لم يعد محصوراً في توسع الفوارق بين الأكثر ثراءً والأشد فقراً، بل بات يشمل تنامي معدلات التهميش والاستبعاد.
وعندما تشتد أزمة الديمقراطية على هذا النحو، تتجلى في ظواهر جديدة، من أهمها ما يمكن تسميته ديكتاتورية البرلمانات. وهذه ظاهرة تثير التساؤل عن كيفية تحول البرلمان الذي كان يعد المؤسسة الأكثر تعبيراً عن الممارسة الديمقراطية، إلى خطر على هذه الديمقراطية، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا. ولنتأمل إصرار عدد معتبر من أعضاء الكونجرس الأميركي على إلغاء أحد الاختصاصات التنفيذية الأساسية لرئيس الجمهورية، وهو إبرام اتفاقات عسكرية، وعقد صفقات تسليح مع الدول الأخرى. يسعى هؤلاء، منذ أكثر من عام، إلى منع الرئيس ترامب من ممارسة هذا الاختصاص في علاقة الولايات المتحدة ببعض الدول مما اضطره لاستخدام حق النقض ضد قرارات الكونجرس ثلاث مرات حتى الآن. وفضلاً عن أن هذا السلوك البرلماني ينطوي على ممارسة ديكتاتورية، فهو يُعد خطراً على الديمقراطية الأميركية، لأنه يُحدث خللاً في التوازن الدقيق الذي يقوم عليه النظام السياسي في الولايات المتحدة. ولا يقل خطراً أداء مجلس العموم البريطاني في أزمة البريكست، منذ أن منح أعضاؤه أنفسهم حق اتخاذ القرار النهائي بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي، أي انتزعوا هذا الحق من الشعب. وأصر المجلس على عدم إجراء استفتاء ثان قد يتيح مخرجاً من الأزمة. كما رفض أربعة مشاريع طرحتها رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي بشأن اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي أدى لاستقالتها. وفضلاً عن الخطر الذي يمثله هذا الموقف على الديمقراطية، فسيكون الاقتصاد البريطاني في خطر أيضاً حال مغادرة الاتحاد الأوروبي دون اتفاق. وهذا احتمال يزداد رجحانه في ظل قيادة بوريس جونسون.

*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية