طوّر هيجل الفلسفة النقدية، من نقد العقل إلى نقد التاريخ ونقد الحضارة ونقد الفلسفة ونقد الدين. فالنقد ليس منهجاً سلبياً بل هو منهج إيجابي يعيد بناء الثقافة على نحو جدلي، لا فرق بين العقل والواقع، بين الروح والتاريخ. فلا شيء ثابت بل كل شيء خاضع للحركة والتطور الثلاثي، بين الموضوع ونقيض الموضوع ومركب الموضوع ونقيضه، في دورة متكررة. لا فرق بين المعرفة في «ظاهريات الروح» والوجود في «علم المنطق»، فمن الدين إلى الفلسفة إلى المعرفة المطلقة.. تمحى فيه الأجزاء في هذا الكل.
ثم قام الهيجليون الشبان بمحاولة نقدية ثالثة لذلك الكل من أجل نقد الدين باعتباره «اغتراباً»، لصالح العودة إلى الإنسان عند فيورباخ. ومارس ماركس «نقد النقد» من أجل تحويل النقد الثقافي النسبي إلى نقد اجتماعي جذري. فنقد الفكر بحاجة للتحول إلى نقد الواقع، والنقد الفلسفي بحاجة إلى أن يصبح نقداً اجتماعياً.
واستمر النقد في العلوم الاجتماعية لدى مدرسة فرانكفورت عند هوركهايمر في «النظرية النقدية»، والتي يتحول فيها النقد من مذهب إلى منهج، ومن فلسفة إلى أداة.
ثم تحول النقد مع ما بعد الحداثة والتفكيكية إلى البحث عن اللاشيء. فالحداثة وهم، واستبدال ثابت بثابت، استبدال الجديد بالقديم، والعقل بالإيمان، والواقع بالنص، والبرهان بالمؤسسة، والنقد بالسلطة.. فلا يجد التفكيك شيئاً لينتهي إلى العدمية. النقد يأكل نفسه، ويدمر نفسه بنفسه، ويقضي على ما بناه. فلا أنساق ولا بدائل، ولا ثوابت.
وقد راجت هذه التيارات النقدية الحديثة في الفكر العربي المعاصر، دون توفر شروطها في المرحلة التاريخية التي يمر بها العرب المعاصرون. فمازال العرب يصارعون ضد عصرهم الوسيط، بينما ترك الغرب قرسطوياته منذ خمسة قرون، ومازال العرب يصارعون من أجل إصلاح ديني ونزعة إنسانية وتنوير فكري علمي. ولعجزه عن الحفر في التراث القديم لاستكشاف جذور النقد، فإن المفكر العربي يستسهل نقل النقد الغربي لسد الحاجة وملء الفراغ النقدي. وسرعان ما يحاصر أمام الخطاب السلفي الذي يستمد جذوره من الماضي ويلبي حاجة وهمية في الحاضر.
يمكن تأسيس النقد في فكرنا المعاصر بالبحث عن جذوره في التراث القديم. ففي كل علم من العلوم القديمة هناك ما يمكن البناء عليه، حتى فيما يبدو أبعد العلوم عن النقد، مثل علم العقائد أو علم أصول الدين أو علم الكلام.
النقد ضروري للثقافة، وأهميته كونه يضع كل ما يُعتقد اجتماعياً وثقافياً وتاريخياً أنه مسلمات ومطلقات وثوابت موضع التحليل والفحص، لبيان النشأة والتكوين ثم البنية والماهية. النقد ضروري لثقافة ترى كل شيء فيها مقدساً لا يمكن الاقتراب منه، أو فهمه أو تأويله، لأنه يتضمن معناه في داخله ويفهم عن طريق اللغة، حقيقة أم مجازاً، محكماً أم متشابهاً، مبيناً أم مجملا، مقيداً أم مطلقاً!
النقد ضروري لثقافة ترى الحقيقة من جانب واحد، أي من منظور «الفرقة الناجية».. وهو القادر على إثبات نسبية المعرفة وتعدد الرؤى. فالحقيقة منظور بين منظورات لا يستبعد أحدُها الآخرَ. بل يتفاعل بعضها مع البعض من أجل رؤية الموضوع من كل جوانبه. الرفض المبدئي ليس نقداً. إنما النقد هو التحليل وبناء العناصر المكونة للمركبات، ونزع السلطة منها، أي سلطة التاريخ وسلطة المقدس.
النقد ضروري كأحد وسائل التحرر والتفسير الاجتماعي إعدادا للإصلاح الفكري. فقد قامت الثورات الشعبية العربية الأخيرة انطلاقاً من تجارب الفقر والقهر وضياع حقوق الإنسان، فأخفقت لأنها لم تكن مسنودة من حركة نقد ثقافي للتصورات الموروثة للعالم.
النقد الثقافي هو الثورة الدائمة التي لا تنتصر بمجرد إسقاط نظام سياسي، بل بتغير نظام عقلي وتصور للعالم يجعل الناس يتقبلون القهر ويستسلمون للمقدس المكتوب، ويؤمنون بالمخلص المنتظر!

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة