السياسة لا تقر بالصداقة، بل تعترف بالمصلحة فمن يتصالح معها يجني ثمارها ومن يصطدم معها يعاني الأمرين من خسرانها. ليس في السياسة مفهوم جامد بمعنى «ديالكتيك» وإنما هي دائما «داينميك»، أي متغيراتها ثوابت. يقولون إن السياسة فن الممكن، ولكن عند كيسنجر انتهاز للفرص، وعندما يعجز المرء عن اقتناصها، فإنه يتهم الآخر بالانتهازية.
السياسة التي تحكم الدول بحاجة إلى الحكمة أكثر من التحكم في رقاب الشعوب. فكلما تصالحت المصالح بين مختلف الدول قلت الصدامات العسكرية بينها، والقوة والضعف هنا أمر نسبي. فكلاهما يوقع نوعاً من الأذى في حال الخصومة أوالنزاع السياسي، حتى لو وصل الصراع إلى درجة المواجهة العسكرية. في القضايا السياسية تبدو شبكة المصالح هي الآمنة في الحفاظ على شعرة معاوية بين الدول، لضرورة العيش المشترك. فالمصالح هي التي ينبغي أن توفر للمجتمعات بدائل العلاقات البينية بين كافة دول العالم دون استثناء، فالقادر على ضمان تحقيقها لشعبه هو الرابح الأكبر والعكس هو الأخسر.
ولن نذهب بعيداً لإثبات ذلك بالدليل القاطع عند منْ دشن «طريق الحرير» حول ثلث دول العالم أجمع. إنها الصين المنافس القادم لاعتلاء عرش اقتصاد العالم كما خططت له في العام 2030. فشركة «هواوي» التي دار حولها جدال ساخن أقرب ما يكون إلى حرب اقتصادية باردة بين دولتين عظميين عضوين في مجلس الأمن، فهي تتطلع للحصول على التكنولوجيا الروسية لخفض اعتمادها على التكنولوجيا الأميركية، وذلك بعد إدراج واشنطن الشركة الصينية في القائمة السوداء، حيث ذكرت وسائل إعلام روسية أن «هواوي» تُجري مفاوضات مع العديد من شركات التكنولوجيا الروسية لإنشاء مشاريع مشتركة واستخدام تكنولوجياتها، مما يساهم في زيادة مبيعات الشركة الصينية في السوق الروسية، لا توجد دولة، ولو كانت بعظمة وحجم أميركا تملك كل مصادر العيش، حتى إذا وجد في أرضها من ذات المواد التي تستوردها من مختلف أنحاء العالم. والنفط مثال على ذلك فهي أكبر مستورد على مستوى العالم، مع أن مخزونها من النفط الصخري أو الأحفوري يمكّنها من المنافسة.
ولكن مع ذلك فإن مصلحتها الاستراتيجية بعيدة المدي، وليست التكتيكية جعلتها تعتمد على النفط الخام الوارد من دول الخليج بدرجة كبيرة.
كما أن هناك فنا لإدارة الأزمات، كذلك الوضع بالنسبة لتضارب المصالح بين الدول.
بين أيدينا حالة للتضارب بين دولتين وهما اليابان وكوريا الجنوبية. في هذا المجال يرى بعض المحللين أن الخلافات التاريخية بين طوكيو وسيؤول تُضعف إنتاج كوريا الجنوبية من المكونات التي تستخدم في صنع الشرائح وشاشات الهواتف الذكية. وأعلنت الحكومة اليابانية فرض قيود على تصدير منتجات كيميائية حيوية إلى كوريا الجنوبية. وجاءت هذه الإجراءات بسبب خلاف قديم، أحياه مؤخراً قرار للقضاء الكوري الجنوبي اعتبرته طوكيو إهانة. لكن الحل لا يبدو قريباً، ويمكن أن يسبب اضطراباً في انتشار شبكة الجيل الخامس (5G) لاتصالات الإنترنت ذات السرعة الفائقة، وكذلك الشاشات المستقبلية القابلة للطي، فهذا النوع من الخلاف بين الدول وبسببه لا يٌبرر رفع السلاح في وجه الآخر كي يركع.
وقضية كوريا الشمالية أوضح من أن يغطيها غربال السياسة بينها وبين أميركا، رغم أن العداء بين الدولتين في أعلى الذرى إلا أنهما يبحثان عن وجه للمصلحة كي يجتمع شملهما بدل الضغط على الزر النووي والتهديد به كلما ارتفعت نبرة الاستفزاز بينهما.
فإدارة المصالح بين أي طرفين على شفى حفرة الأزمات بحاجة ماسة للضغط على زر التصالح الإنساني بدل استخدام الرد أو الردع النووي.