قبل ثلاثين سنة، أي في صيف 1989، نشر الكاتب الأميركي «فرانسيس فوكوياما» مقاله الشهير الذي يحمل عنوان «نهاية التاريخ؟»، في مجلة «ذي ناشيونال انترست» التي كان أسسها قبل 4 سنوات من نشر المقال المفكر الأميركي «افرينغ كريستول» الذي يعتبر الأب الروحي لتيار «المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة. كنت من أوائل الذين اطلعوا على المقال قبل ذيوعه، وقد أمدني به أوانها زميل أفريقي التقيت به في المؤتمر الدولي للفلسفة في مدينة الحمامات التونسية. والغريب في الأمر أن المقال الذي بدا لي أول ما قرأته مجرد توظيف لمقاربة الفيلسوف الفرنسي «ألكسندر كوجيف» في قراءة كتاب «ظاهريات الروح» لهيغل في فهم التحولات التي بدأ العالم يعرفها في تلك الحقبة، أُعتبر على نطاق واسع- خصوصاً في العالم العربي- تبشيراً بانتصار الليبرالية الرأسمالية الغربية باعتبارها المحطة الأخيرة من تطور الإنسانية.
والواقع أن فوكوياما لم يتجاوز في مقاله ملاحظةَ أن نهاية الحرب الباردة التي ظهرت آنذاك إرهاصاتها بقوة تعني انحسار النموذج البديل الذي انساق وراءه نصف العالم، أي النموذج الاشتراكي الشيوعي الذي كان يمثل التحدي الفكري والأيديولوجي الأكبر للخيار الليبرالي الرأسمالي الذي هو التعبير الطبيعي عن حركة الحداثة الكونية التي بدأت من أوروبا وتمددت لبقية العالم.
لا مجال هنا لمناقشة مسوغات توظيف قراءة كوجيف لمفهوم التاريخ الهيغلي (وهي قراءة كثُر حولَها الجدل في الدراسات المتخصصة)، وإنما حسبنا الإشارة إلى أن أطروحة فوكوياما انطلقت أساساً من معطيات ثلاثة بدت أوانها من البديهيات وهي: انتقال مناطق واسعة من العالم إلى الليبرالية الاقتصادية والسياسية بدءاً من روسيا وأوروبا الشرقية، وانتهاء ببلدان عديدة من أفريقيا وأميركا اللاتينية كانت تدور في الفلك السوفييتي، بروز نظام عالمي جديد تتحكم فيه القوة العظمى المنتصرة (الولايات المتحدة) من شأنه تسوية النزاعات الدولية القائمة ونشر السلام وحقوق الإنسان بالإقناع والقوة، وأخيراً انطلاق ديناميكية «العولمة السعيدة» التي ستحمل لرفاهية والأمن إلى كل مناطق العالم المتداخلة في المصالح والمصائر.
لم يكن فوكوياما الوحيد الذي بشر بهذه الطوبائية الحالمة، إلا أن مقولة «نهاية التاريخ» حملت شحنة استفزازية كان لها أكبر التأثير في انتشار المقال ثم الكتاب الذي صدر بالعنوان ذاته.
يقر اليوم فوكوياما بأنه كان متفائلاً أكثر من اللازم وبأنه لم يدرك مصاعب التحول الديمقراطي خارج المجال الأميركي والأوروبي الغربي رغم تمدد التجربة الديمقراطية بصفة واسعة في العقود الثلاثة الأخيرة، كما أنه لم يتوقع موضوع التطرف الديني وما يطرحه من تحديات أمنية وسياسية، خصوصاً في مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وما جرّته من مصائب على العالم.
وإذا كان فوكوياما لا يزال يعتقد أن نظريته في عمومها صحيحة، باعتبار أن الأفق الليبرالي القائم على قيمتي الحرية والمساواة ثبت أنه الاتجاه الغائي للتحديث التقني والاقتصادي، فكرياً واجتماعياً ولشكل النظام السياسي الضابط لشرعية الحكم، إلا أنه يقر بأن الحالة الصينية تمثل تحدياً حقيقياً لأطروحته ببروز شكل من النموذج الجامع بين الرأسمالية الاقتصادية النشطة والمركزية السياسية الأحادية، وهو النموذج الذي يبدو أنه يتعزز ويتوطد بل يتمدد في المجال الآسيوي القريب، على عكس الأيديولوجيات الإسلامية المتطرفة التي يعتقد أنها في طور الانكماش والانحسار.
والحقيقة أن فوكوياما منذ نشر كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، الصادر في عام 1992، بدأ يركز في دراساته على مفهوم «الاعتراف» الهيغلي الذي هو حجر الزاوية في كتاب هيغل الأساسي «ظاهريات الروح»، ناقلاً اهتمامه من النقاش حول طبيعة النظام الليبرالي ونمط شرعيته إلى إشكال الهوية وما يطرحه من أسئلة معقدة في المجتمعات الحديثة، بما يتجلى في الظاهرتين المحوريتين اللتين استأثرتا بأعمال فوكوياما الأخيرة، وهما الثورة الجينية الراهنة وأثرها على الطبيعة الإنسانية، والحركة الشعبوية الجديدة في علاقتها بموضوع الهويات القومية والثقافية.
الثورة الجينية تطرح تحديات غير مسبوقة على مفهوم الذاتية الفردية الحرة الذي هو الأساس المرجعي للحداثة الليبرالية بما تفضي إليه من تلاعب بقدرات الإنسان الأصلية في الاختيار والقرار، والحركة الشعبوية تنذر بتفاقم الانفصام بين الآليات التمثيلية في الديمقراطية والقيم الليبرالية التي هي المرجعية المعيارية للديمقراطية الليبرالية الحديثة.
ولعل القصور الأساسي في أطروحة فوكوياما هو أنه اختصر دلالة نهاية التاريخ بالمنظور الهيغلي في الحدث التاريخي لا حركية الفكرة المطلقة التي هي بالنسبة لهيغل المسار العقلاني العميق للتاريخ، لا الحدث السياسي بتموجاته الظاهرة.