تركز الجدل حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق على الخسائر الاقتصادية المحتملة لهذه الخطوة، لكن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أضاف للمسألة بعداً سياسياً بخطوته الأخيرة التي أفضت لتعليق عمل البرلمان بعد أيام قليلة من عودته للانعقاد. ورغم أن الخطوة تمت وفقاً للأعراف الدستورية، ولها سوابقها، فإن منافاتها للديمقراطية واضحة، إذ من شأن هذا التعليق غير المسبوق في مدته أن يحرم معارضي الخروج دون اتفاق من مدة زمنية كان بمقدورهم فيها اتخاذ الخطوات التشريعية اللازمة لعرقلة ذلك الخروج.
وكان لافتاً أن ينضم رئيس مجلس العموم، والذي لا يعلق عادة على التطورات السياسية، إلى نقد خطوة جونسون، بقوله إنها تمثل انتهاكاً للقيم الدستورية وإن «الغرض من وراء تعليق عمل البرلمان هو منع النواب من مناقشة عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي».
أما أحزاب المعارضة فتوحدت ضد هذه الخطوة، ليس لمناوأة الخروج بالضرورة وإنما لمعارضته دون اتفاق، بل إن أربعين من النواب المحافظين هددوا بالتصويت ضد الخروج دون اتفاق، وانضمت إليهم قيادات محافظة سابقة على رأسها جون ميجور رئيس الوزراء الأسبق. وفوق هذا كله خرجت عشرات المظاهرات في نحو ثلاثين مدينة بريطانية تعلن رفضها خطوةَ جونسون، ووقع مليونا مواطن بريطاني على عريضة تطالب بعدم تعليق عمل البرلمان.. فما الذي تستطيع كل هذه المعارضة فعله؟
من الواضح أن هناك مسارين أساسيين لتحرك المعارضة أولهما قضائي والثاني سياسي. أما القضائي فبدأ بالفعل، وقد رفضت محكمة اسكتلندية طعناً قانونياً يهدف إلى إجهاض خطوة رئيس الوزراء، ويُفترض أن تكون المحكمة العليا في أيرلندا الشمالية قد نظرت في طعن مماثل قبل نشر هذه المقالة، كما تقدمت جينا ميلر، سيدة الأعمال المعروفة، طعناً ثالثاً أمام محكمة إنجليزية. والمثير أن جون ميجور قد انضم لهذه الدعوة، وكان قد صرح بأن الهدف من خطوة جونسون هو شل البرلمان وتقييد دوره في ملف بريكسيت.
ويتركز المسار السياسي في أحد بديلين، أولهما سحب الثقة من حكومة جونسون، مما يفتح الباب أمام حكومة وحدة وطنية يُصَعِّب من تأليفها غياب الإجماع على زعيم حزب العمال كرئيس وزراء بديل، وثانيهما إصدار تشريع ملزم من البرلمان يمنع الخروج دون اتفاق، وهو الأكثر احتمالاً. وفي كل الأحوال يبدو أن أزمة «بريكسيت» باقية دون حل، لأن مصدرها انقسام المجتمع البريطاني حول هذه القضية. ولا ننسى أن الموافقة على الخروج تمت أصلاً بأغلبية ضئيلة (52?‏)، وأن كثيراً من المغالطات روجها أنصاره، ومنهم جونسون، في سياق الدعاية للخروج، وأن مجلس العموم شهد انقساماً حاداً حول كل ما يتعلق بالخروج، وبالتالي سوف تستمر الأزمة بغض النظر عن الطرف الذي سينتصر فيها. فلو نجح جونسون في الخروج من دون اتفاق، وهو احتمال مُسْتَبْعَد، فسوف يواجه تداعيات خطيرة أصبحت الآن معروفة ومعروف كيف ستمتد إلى كل مناحي الحياة، من غذاء وخدمات صحية واقتصاد وغيره، وسوف تثور أزمات أخرى بلا نهاية أخطرها نزعات الانفصال التي باتت تتردد علناً في كل من اسكتلندا التي ترفض «بريكسيت» أصلاً، وفي أيرلندا التي تعارض إلغاء الترتيب الخاص بالحدود بينها وبين أيرلندا الجنوبية وقد تضمنه الاتفاق الذي أبرمته تريزا ماي. وكلا الموقفين يهددان تماسك المملكة المتحدة.
أما إذا انتصر خصوم جونسون فسوف يكتشفون أنهم، وإن اجتمعوا عليه، أن هذا فقط هو ما يوحد صفوفهم، لكنهم لا يملكون رؤية مشتركة لمسار التحرك بعد الإطاحة بحكم المحافظين، وهل يكون هذا التحرك نحو انتخابات جديدة مثلاً أم نحو استفتاء آخر؟ والمربك أنه أياً كانت الخطوة التي ستتخذ فإنها لن تقضي على الانقسام تجاه «بريكسيت»، إذ يبقى له أنصاره الأشداء وخصومه الألداء، وبفرض أن انتخابات جديدة أو استفتاءً جديداً قد أسفرا عن نتائج لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي، فإن ذلك لن يُنهي حالة الانقسام الحاد التي تشهدها بريطانيا نتيجة سوء التدبير وقصر النظر.