باتت ظاهرة الاحتباس الحراري القضية الأبرز التي تفرض نفسها على سكان وقادة العالم، إذ لم يعد مقبولاً تجاهل الآثار الكارثية التي تعاني منها البيئة، ولا السكوت على تدمير الحياة، خلال جولتي في أوروبا بين شهري يوليو وأغسطس الماضيين، عايشت عن قرب حالة الهلع التي انتابت الأوروبيين جرّاء تنامي تلك الظاهرة، وما ينجم عنها من ارتفاع في درجة حرارة الأرض.
فالمواطن الأوروبي وسكان المناطق الباردة عموماً، عاشوا متكيّفين مع الطقس البارد والأمطار الغزيرة والثلوج الكثيفة، لكن في السنوات الأخيرة ونتيجة ارتفاع درجات الحرارة المفاجئ ارتبك الجميع، بخاصة عندما راح ضحية هذا التغيّر عشرات القتلى، ومن يدري ما الذي ستخلّفه حرائق غابات الأمازون التي تعتبر الأكبر بين الغابات المطيرة في العالم، وتوفر 20% من الأوكسجين الذي يتنفسه سكان الأرض.
إن حرائق غابات الأمازون وأفريقيا، وحرائق غابات سيبيريا، وإندونيسيا قبلها، تكشف أن حماية البيئة والحفاظ عليها بات أمراً حتمياً، ولهذا لم أستغرب حالة الاستنفار الدولي وتوالي تصريحات كبار المسؤولين، وفي مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريس، الذي تحدث عن أزمة بيئية عالمية، وأطلق حملة نداءات دولية للتحرك بقوة لإنقاذ الأمازون، كما تواصل مع دول عدة لبحث ما إذا كان بالإمكان عقد اجتماع يخصص لحشد الدعم للأمازون، خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، بين 20 و23 سبتمبر الجاري في نيويورك.
وتأكيداً على أن خطراً حقيقياً يواجه «رئة الكوكب»، فقد عاد ملف التغيير المناخي والبيئة إلى صدارة جدول أعمال قمة الدول الصناعية السبع الكبرى، وقال الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، (غابات الأمازون تحترق، إنها أزمة دولية)، في حين أعربت بريطانيا عن قلقها الشديد بسبب اتساع نطاق الحرائق، كما دعت منظمة السلام الأخضر «جرينبيس» إلى تقديم العون لمكافحة الحرائق المستعرة وسط أفريقيا، والتي تهدد «الرئة الخضراء الثانية» للعالم، ويبقى الأمل معقوداً في أن تُحرك قمة «ليتيسيا» في كولومبيا، التي دعا إليها الرئيس البرازيلي ساكناً، فيتمكن المجتمعون من تحديد سياسة مشتركة لحماية الأمازون.
ولطالما «بضدها تتبين الأشياء» - كما قال المتنبي - وبالتزامن مع هذه الأحداث العالمية الملتهبة، فإن ريادة الإمارات في حماية البيئة تتأصل، وتتواصل لتقديم خدماتها الجليلة للإنسانية. ومن بينها «معرض أبوظبي الدولي للصيد والفروسية»، الذي اختُتمت دورته الـ17 مؤخراً تحت شعار (معاً لترسيخ مفاهيم الصيد المستدام)، وطُرحت من خلاله «استراتيجية الإمارات لحماية الطيور الجارحة» وفي مقدمتها الصقور، والتي سبقها في أبريل 2018 إطلاق «صندوق محمد بن زايد للمحافظة على الطيور الجارحة».
إن مبادرات الإمارات العالمية على صعيد البيئة والتشجيع على حمايتها واستدامتها كثيرة ومهمة، ومن بينها «جائزة زايد الدولية للبيئة»، التي أنشأها ويرعاها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله»، منذ عام 1998، وهي أكبر جائزة عالمية في مجال حماية البيئة. وكذلك قرار صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، عام 2006 بإنشاء «الصندوق الدولي للحفاظ على طائر الحبارى» لحماية هذا الطائر في بيئته الطبيعية، واستدامة إعداده على المدى الطويل، واستدامة تراث الصقارة أيضاً. ثم قرار سموه بإنشاء «صندوق محمد بن زايد للمحافظة على الكائنات الحية» عام 2008، ومهمته تقديم المنح للمبادرات الفردية في مجال حفظ الأنواع، وتكريم رواد الحفظ والبحث العلمي، وتسليط الضوء على قضية حفظ الأنواع، ورفع مستوى الوعي بشأنها في مجتمعات ومحافل صون موارد الطبيعة الأحيائية.
ما حققته الإمارات على صعيد حماية البيئة، قاد الدول والمنظمات المعنية إلى الثقة بدورها ومساهماتها، وبالتالي وقع الاختيار عليها لتكون مقر «الأمانة العامة للهيئة التنسيقية للصندوق العالمي للحفاظ على الطبيعة لصون المها العربي». وتقديراً لعملها في مجال حماية السلاحف البحرية المهددة بالانقراض تم تنصيبها «رئيس جماعة السلاحف البحرية لمنطقة غرب المحيط الهندي» التابعة للاتحاد العالمي لحماية الطبيعة.
كلما مضت الإمارات في تنفيذ سياستها البيئية، عدنا بذاكرتنا مباشرةً إلى الشيخ زايد، غفر الله له، بكل حكمته ونُبله، واستعدنا جهوده في مجال الحياة البرية، وحرصه على المزاوجة بين التنمية والبناء والحفاظ على البيئة، ولهذا لم يكن منحه لقب «رجل البيئة الأول» ولقب «بطل الأرض» مجاملة من المؤسسات الدولية العاملة في هذا المجال، إنما نتيجة حتمية لما كان عليه الرجل، وللدور الذي ساهم به، وهو فاعل بالتأكيد.
نعم.. إن جميع الدول مُطالبة اليوم قبل الغد بالتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإصلاح ما أفسده الإنسان طوال الفترة التي مضت. ونأمل أن تستيقظ الضمائر لتلبية النداءات للحد من الكوارث التي يعاني منها كوكبنا، فالوقت ينفد، وليس للحكومات والأفراد ترف تجاهل غضب الأرض وثورتها علينا.