إعادة الارتباط الروحي والعقلي بالهجرة النبوية الشريفة، يلغي حواجز السنوات والعقود التي مرت منذ هجرة النبي العدنان، ويبني في النفس جسوراً من الهمة وعقد العزم على تجديد الهجرة بأشكالها، والتي لن تتوقف ما دام في النفس البشرية حياة، إذ إنها لم تُبجّل للانتقال المكاني بعينه، بل تجسيداً للسلوك التعبدي الذي ينم عن عمق الإيمان والإخلاص والتفاني في سبيل إيصال الرسالة السامية، التي هاجرت بالمسلمين من التخبط إلى الهدى، ومن الاستضعاف والتكذيب للقوة والعدالة، ومن العزلة للاندماج والتسامح.
وأفضل ما قد يخرج به المرء من إمعانه وإصغاء نفسه لثنايا الهجرة النبوية الشريفة، هو شد الرحال لهجرة الإصلاح الذي يبدأ من الذات، والهجرة بها عن كل ما قد يفسدها، ووضعها في الحيز سواء أكان الأسري أو المجتمعي أو العالمي الذي يُرى الفرد في أرجائه بناءً مؤثراً داعماً مضيفاً.
والهجرات العظيمة لا تقوم إلا بنوايا صادقة وهمم عالية، وشركاء أبرار. فالهجرة بالواقع لواقع أفضل منه لا تكون إلا من أجل حاجة طبيعية للانتقال من حال إلى حال آخر، متضافرة الأفئدة قبل السواعد، فنجد من يعمل ويضحي بالغالي والنفيس لإنجاح الهجرة، فلم يفكر لوهلة علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه- قبل أن ينام في فراش النبي الكريم، رغم يقينه بأنه معرض لفقدان حياته. ولم يتراجع الصحابي الجليل أبوبكر الصديق عن خطواته الواثقة رغم عثرات الطريق وثقل المسؤولية، التي بدأها تاركاً أهله دون مال وراءه في وديعة الله التي لا يضرها شيء. وهنا تبرز الحاجة الملحة لحسن اصطفاء المرء لمعينه في طريق بث الخير، وبخاصة عندما تقوم على كاهله مسؤولية واسعة، لا بد من إيصال هذه الرسالة السماوية.
وحين ارتبطت بالهجرة النبوية الشريفة إنجاح الدعوة الإسلامية الخالدة، التي جاء بها النبي الأمين لكافة البشرية مبشراً بالخير والأمن، فقد ترك لنا فيها ما لزم التفكر به من منهاج قائم على البعد الإنساني والشراكة مع الآخر، يأخذ بالأسباب دونما التوقف بانتظار المعجزة، رغم أنه نبي مؤيد بالوحي ومنصور من عند الله عز وجل، الذي لا تهزمه القوة وليس بعد تدبيره تدبير. ومع الإيمان وتحكيم العقل والضمير الإنساني، لا تغيب بوصلة الحق المروية بحسن الظن بقدرة الله في تيسير الأمور، والعمل في معيته لتعم السكينة أرجاء المعمورة، قال تعالى: «فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها».
إن تاريخ الهجرة الشريفة المتجدد كل عام، ينادي بلا توقف، ضعوا ثقتكم في قدرات المرأة، فأسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنها – من حفظت السر وتحملت مشقة البدن. وهي الشريك الجهبذ للرجل في تغيير الواقع، والصداقة الحقيقية هي التي تتخطى الشعارات وتؤثر الخير للغير، وتقطر دمعاً حانياً قبل حبات العرق المنسابة على الجبين في سبيل تحقيق الهدف، وتنادي بهجرة تغيير جذري، ونقطة تحول ناشرةً للترابط والتسامح والاتحاد، معتمدةً على أفراد يجعلون من التوكل على الله مهما تعددت الظروف، قاعدة أساسية في تحقيق أهدافهم، معززةً بالصبر والاجتهاد، وقد برز ذلك في تحمل النبي الكريم لكل ما تعرض له من أذى وتعذيب واستهزاء وتشكيك، ليبثه في فؤاد صاحبه يقيناً جازماً بتحقيق الغاية، ورفع الراية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».
فكل عام وأنتم بهجرة إلى الحق والخير والسلام.
*الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة