تُعد مسألة الإمامة أو الخلافة، التي تأتي بحاكمية الله أو بالنَّص منه، حسب اختلاف المذاهب، أساساً لفكرة الحُكم عند الإسلام السِّياسي، لهذا كثر الجدل حولها، فهي السُّلطة بين أن تكون إلهية مقطوعة بتتويج إلهي، كما هو الحال عند الإمامية، وما تفرع عن ذلك مِن فكرة ولاية الفقيه، أو الحُكم باسم الله مثلما هو الحال عند الإسلام السياسي السُّني، أي الحاكمية المنطلقة مِن الآية: «إنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»، وهي لا تعني الخلافة أو الإمامة، إنما تعني قُدرة الله، وقد أتينا عليها بالتفصيل في مقال: «إنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ.. ليست سياسة» (الاتحاد في 13 نوفمبر2018).
إنها المسألة التي ناقشها الشَّيخ المصري علي عبد الرَّازق (تـ1966) في كتابه «الإسلام وأُصول الحُكم» (1925)، نافياً أن تكون الخلافة دينية، وما هي إلا آراء فقهية مختلف عليها، بينما الخلافة مسألة كبرى، وكانت النَّتيجة أن عُزل مؤلف الكتاب مِن الأزهر، وتلك قصة مشهورة. جاء كتاب عبد الرَّازق مزلزلاً لمَن كان يريد بعث الخلافة العثمانية، وبالتَّالي ظل ما كتبَ ناقضاً لحاكمية الإسلام السِّياسي.
بعد أكثر مِن سبعة عقود ظهر الشَّيخ الإيراني مُحسن كَدِيْور، في محاضراته التي كان يُلقيها في جامعة طهران وحُسينة الرَّشاد، له كتابان جُمعتْ أفكارُه فيهما بخصوص الإمامة وولاية الفقيه: «نظريات الحُكم في الفقه الشِّيعي أو بحوث في ولاية الفقيه» و«القراءة المَنْسية إعادة قِراءة نَظرية الأئمة الاثني عشر عُلماء أبرار».
قدم فيهما «كَدِيْور» نقضاً لولاية الفقيه، مميزاً في كتابه الثَّاني بين الفكر الإمامي، خلال القرون الأربعة قبل الألف عام وما أتى بعدها، وأن ما هو موجود مِن فكر سياسي إمامي اليوم إنما هو فكر «التفويض»، أي أن الله فوّض كلَّ شيء للأئمة، بينما فقهاء كبار اعتبروا الأئمة «علماء أبراراً»، غير مفوضين مِن الله. أتى بأسماء فقهاء أكدوا أن الأئمة أصحاب رأي واجتهاد، كلامهم ليس ربانياً، مثل أحمد الغضائري (القرن الخامس الهجري)، وابن الجُنيد الإسكافي (تـ377هـ). لهذا ذمَّ الأئمةُ مَن اعتبرهم فوق البشرية، ممَن عرفوا بالمفوضة والغلاة، فبالوقت الذي انسحب فيه فكر مَن ذكرنا، ظهرت، حسب الشَّيخ «كَدِيْور»، «الإمامة التَّفويضية» أي المفوضة مِن قِبل الله، بينما خفيت «الإمامة الأصلية»، وهي إمامة الفقيه.
يلتقي «كَدِيْور» بعبد الرَّازق في مسألة نفي نيابة الله على الأرض، فلا وجود لشخص مفوض بالحاكمية الإلهية، مثلما ورد عند المودودي (تـ1979) في كتابه «الحكومة الإسلامية» أو الولي الفقيه نائب الإمام، مثلما وردت في كتاب «الحكومة الإسلامية» للخميني (تـ1989).
إذا كانت، مثلما تقدم، محاولات إعادة الخلافة الإسلامية بعد سقوط السلطنة العثمانية، حافزاً لعلي عبد الرَّازق للتَّصريح برأيه المُضَمَّن في كتابه المذكور، فإن وجود الجمهورية الإسلامية القائمة على فكرة ولاية الفقيه وتطبيقها، حافز لمحسن كَدِيْور في ركوب المخاطر ومواجهة المحاكمات، بما هو أخطر مما واجهه عبد الرَّازق.
قُدم لمحاكمة دينية، تُعرف في إيران بـ«المحكمة الخاصة بعلماء الدِّين»، وحكمت عليه بالسّجن، وكانت التهمة «إدلاء بأحاديث صحفية معادية للنظام لبعض الصُّحف أو الإذاعات الأجنبية، وبتهمة نشر لعدد مِن المقالات في بعض الصحف الإصلاحية» (القراءة المنسية/ المقدمة). وبعد توليه وظائف التدريس ببلاده تركها إلى المهجر.
بدأ «كَدِيْور» دراسته الفقهية في عام الثورة الإسلامية (1979)، بعد الانتهاء من دراسة الهندسة الكهربائية، ولعلها الصدفة أن يكون معظم المعممين البارزين، بعد الثورة الإيرانية، قد درسوا الهندسة، ليس لدينا ربط في الموضوع، ولكنها ظاهرة تلفت النَّظرة. غير أن منهم مَن استفاد مِن المعادلات العلمية وعكسها في رؤيته الدِّينية، متلمساً الواقع في قضايا مصيرية، كواقع فكري متخلصاً من الروايات المختلف عليها، ومنهم مَن ترك العلم الهندسي وراءه، وراح يجعل مِن تلك الرَّوايات نصوصاً مقدسة، وإن كانت تُشكل عقيدة تحكم البشرية بأسرها في الدِّين والدُّنيا، دون الالتفات إلى اختلاف البشر.
بعد نحو ثمانين عاماً يخرج قرين عبد الرَّازق، مجادلاً بالأدلة، ومِن المذهب الآخر، لا تفويض مِن الله لأحد في الحُكم، وبالتالي لا وجود لولاية الفقيه، وما هذه الثوابت، التي تمارس في السياسية الدِّينية، إلا أفكار بشر لا تتعدى الغلو بالأشخاص، على أن الإمامة أو الخلافة إلهية المنشأ.
إن الخطر الذي أحاط بـ«كَدِيْور» كونه مِن داخل النظام الفقهي والفكري، كذلك كان عبد الرَّازق، الذي هزَّ ثوابت الإسلام السِّياسي ومازال يهزها، فلو شاعت أفكارهما التَّنويرية، سيتجاوز المسلمون متاهات الصَّحوة الدِّينية.
ينقل كَدِيْور لأحد الفقهاء القدماء، الخافي على الكثير مِن المتأخرين أو يتعمدون إخفاءه: «المسائل قد تختلف وضوحاً وخفاءً باختلاف الأزمنة والأوقات، فكم مِن أمرٍ جلي ظاهر عند القدماء قد اعتراه الخفاء في زماننا، لبُعد العهد وضياع الأدلة...» (القراءة المنسية).
فحسب كَدِيْور اختفى أصحاب فكرة أن «الأئمة علماء أبرار أصحاب رأي»، وظهرت نيابة الله عبر نيابة الإمام، التي كانت مقموعة مِن قِبل الأوائل والأئمة أنفسهم، وما لا يقره القرآن نفسه. فكيف يا ترى للبشر الخضوع لنظام حاكمية إلهية، بشقيهما، الشِّيعي والسُّني، وهما مشكلان مِن روايات مختلف عليها؟! أجد أمثال عبد الرَّازق وكَدِيْور، مؤشرين إلى سُقمٍ تفاقم ضرره، ولمحمود الوراق (تـ225هـ): «والسُّقمُ في الأبدان ليس بضائرٍ/ والسُّقم في الأديان شرُّ بَلاءِ» (ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة).
*كاتب عراقي