أصبحت القضايا البيئية من أخطر القضايا التي تتعلق بمستقبل كوكب الأرض، وإذا كانت جهود المفكرين والساسة قد ركزت طويلاً على تفادي الصراعات التي تهدد السلم والأمن العالميين، فإن المخاطر البيئية باتت تهدد مستقبل الأرض برمتها نتيجة التغيرات المناخية التي من شأن تواصلها بالوتيرة ذاتها أن تفضي إلى تداعيات كارثية كما في أثر ارتفاع درجة حرارة الأرض على ذوبان الجليد ومن ثم ارتفاع منسوب البحار وما يترتب عليه من كوارث أبسطها غرق مساحات هائلة من كوكب الأرض، ولهذا بدا اهتمام المجتمع الدولي بقضايا البيئة واضحاً في العقود الأخيرة، وجسدت اتفاقية باريس للتغير المناخي التي تم التوصل إليها فى2015 ذروة هذا الاهتمام، وتُعَد أول اتفاق عالمي بشأن المناخ تحقق بعد مفاوضات مضنية في «مؤتمر الأمم المتحدة21 للتغير المناخي»، الذي انعقد في باريس، وقد كان الهدف الأساسي للاتفاقية مواجهة مشكلة انبعاث الغازات الدفيئة(المسببة للاحتباس الحراري) وإيجاد الحلول للتكيف معها والتخفيف من ضررها على البيئة والنظر بجدية للآثار الواضحة للتغيرات المناخية والحد من ارتفاع درجات الحرارة حيث ارتفع متوسطها بمقدار0.80 درجة مئوية ما بين سنتي 1880و2012 ومن المرجح أن تصل الزيادة بنهاية القرن إلى 1-2 درجة بما يزيد من1.5-2.5 درجة عن مستوى ما قبل الثورة الصناعية.
غير أن الاتفاقية لم تكن نهاية المطاف، وبدلاً من أن تكون خطوة البداية في مسار طويل للحماية من التغيرات المناخية على المدى الطويل فإنها على العكس سرعان ما واجهت تحديات متزايدة كان أخطرها انسحاب الولايات المتحدة منها بعد تولي دونالد ترامب الرئاسة في الولايات المتحدة، ففي يونيو2017 أعلن انسحابه من الاتفاقية لرفضه أي شيء يمكن أن يقف في طريق إنهاض الاقتصاد الأميركي، كما أنه تذرع بأن الاتفاقية ليست حازمة بما يكفى مع الصين والهند، وأنها لن تكون ذات تأثير يعتد به على المناخ العالمي، وعلى الرغم من ردود الفعل الأوروبية شديدة السلبية، فإن هذا لم يغير من الأمر شيئاً، والواقع أن التحدي الأكبر الذي تواجهه محاولات ضبط مناخ الكرة الأرضية هو أن هذه المحاولات لابد وأن تتضمن فرض قيود على النشاط الصناعي للدول المتقدمة بصفة خاصة، بل وعلى الدول التي تُخَطط لمزيد من الانطلاق في المجال الصناعي، وهو ما يتطلب التوصل إلى توازن دقيق وعادل بين الحفاظ على كوكب الأرض وهى مصلحة عامة وبعيدة المدى للبشرية جمعاء وبين حق أي دولة في مواصلة جهودها التنموية وهي مصلحة خاصة يمكن أن تتحقق في المدى القصير، ولذلك فإن التحديات التي واجهتها اتفاقية باريس لم تقتصر على موقف ترامب منها، وخير دليل على ذلك الحرائق الأخيرة التي نشبت في غابات الأمازون في البرازيل.
وقد أصبحت حرائق الغابات عموماً ظاهرة شائعة في العقود الأخيرة، وصحيح أنها تعود في جزء منها إلى عوامل مناخية، لكن الخطير أن ثمة مؤشرات متزايدة على حدوثها عمداً لاستغلال أراضيها في مشروعات زراعية أوصناعية تدر ربحاً أو شق طرق ترتبط بهذه المشروعات، ومعروف أن الغابات تنتج خمس أوكسجين الأرض وتمتص أكبر كمية من غازات الاحتباس الحراري، وقد وُجهت الاتهامات صراحة للرئيس للبرازيلي الذي انتُخب في أكتوبر الماضي بمسؤوليته عن الحرائق المروعة الأخيرة في غابات الأمازون، وكان قد أعلن في حملته الانتخابية عن نواياه لاستغلال أراضيها زراعياً وصناعياً لرفع معدلات التنمية ومستوى معيشة المواطنين، وقام بالفعل بتقليل القيود الخاصة بحماية البيئة وصيانة الغابات، الأمر الذي دفع جمعيات حماية البيئة إلى إلقاء اللوم عليه مباشرة في نشوب هذه الحرائق وسبب أزمة في علاقته بالرئيس الفرنسي، الذي تبنى قضية حماية غابات الأمازون في القمة الأخيرة للدول الصناعية السبع الكبرى بباريس، وقد غطت حرائق غابات الأمازون على غيرها من الحرائق، التي قد تكون أقل أهمية لكنها تظهر شمول الظاهرة وخطورتها كما في حرائق غابات ألاسكا الأخيرة في الولايات المتحدة وغابات كيريندي في مدغشقر وغيرها، ونية العمد واضحة فيها أيضاً لشق الطرق في الحالة الأولى وزراعة الذرة في الحالة الثانية.
ويُقال إن رجال الأعمال يقدمون 14دولاراً مقابل كل هكتار يتم حرقه، وهكذا أصبحت جهود حماية الأرض تواجه تحديات حقيقية خاصة بالنظر إلى صعود اليمين المتطرف الذي لا يبالي بالبيئة.
*أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة