تخلت إيران للمرة الثالثة عن تعهداتها وفق خطة العمل المشتركة المعروفة بالاتفاق النووي. وكانت إيران قد أعلنت في الثامن من مايو الماضي عن خطة من ثلاث مراحل لتخفيض التزاماتها النووية، وبذلك انتقلت من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم، فبعدما ظلت تراهن على بقاء الاتفاق النووي رغم الانسحاب الأميركي والعقوبات الأميركية المتتالية، فإن طهران ظلت أيضاً ولعام تراهن على قدرة الأطراف الأوروبية على تنفيذ وعودها بالحفاظ على الاتفاق النووي، من خلال تفعيل آلية التبادل المالي وتضمينها تغطية التعاملات المالية الخاصة بمبيعات النفط، مع فتح الآلية لتكون متاحة لجميع الدول الأوروبية وغير الأوروبية.
وأعلنت طهران على لسان المتحدث باسم هيئة الطاقة النووية الإيرانية، السبت الماضي، إدخال أجهزة طرد مركزية متطورة إلى منظومة التخصيب، ورفع مستوى التخصيب، وبالتالي رفع كل القيود بشأن تخصيب اليورانيوم وأبحاثه، مع استمرار إيران، كما تقول، في السماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بمراقبة أنشطة برنامجها النووي. فهل تمضي إيران إلى إنهاء الاتفاق النووي؟
تشير تطورات الأشهُر الأخيرة إلى عجز الدول الأوروبية عن تفعيل آلية التبادل المالي أو تضمينها تعاملات خارج المسموح به من جانب الولايات المتحدة، لعدم قدرة الدول الأوروبية على تحدي العقوبات الأميركية، مثلها مثل روسيا والصين (الشريكين الآخرين في الاتفاق النووي)، مما دفع النظام الإيراني للمراهنة مجدداً على سياسة حافة الهاوية في أزمة الملف النووي والتوتر مع الولايات المتحدة، وذلك على عدة مستويات، أولها إصدار تصريحات متناقضة بشأن التفاوض مع الولايات المتحدة، في لعبة ابتزاز لجس نبض واشنطن، وصولا إلى أكبر قدر من التنازلات الأميركية. فبعد التصريحات المبهمة للرئيس الإيراني حول استعداده للقاء أي شخص لحل المشاكل، لكنه سرعان ما تراجع عن موقفه خلال الجلسة العلنية للبرلمان الإيراني يوم 3 سبتمبر الجاري، قائلا إن «مسألة المفاوضات الثنائية مع أميركا غير مطروحة أساسا»».
المستوى الثاني تأزيم الأوضاع الإقليمية، خاصة في منطقة الخليج، عبر تهديد حركة الملاحة في مضيق هرمز، وإطلاق التهديدات بعرقلة تدفق النفط عبر المضيق.
أما المستوى الثالث فهو توظيف إيران لميليشياتها وإطلاق أيدي عملائها في المنطقة، كاستهداف ميليشيا الحوثي للمنشآت المدنية السعودية (مثل المطارات وحقول النفط) بغية تهديد الاستقرار في المنطقة، بما يجعل التفكير في دعم الخيار العسكري ضد إيران خياراً عالي التكلفة. ومن هنا يأتي التصعيد الإيراني بشأن البرنامج النووي متمثلا بتخفيض الالتزامات النووية الإيرانية كورقة ضغط أخيرة لتحسين شروط التفاوض مع الولايات المتحدة.
وعليه يمكن القول إن طهران استطاعت حتى الآن، في هجومها متعدد المستويات، إبقاء التوتر مع واشنطن تحت السيطرة، وإحداث تغيير في تعاطي الأطراف الأوروبية مع الأزمة النووية، واستطاعت حصر الخلافات حول البرنامج النووي في أمور تقنية دون التطرق إلى ملفات أخرى تدين طهران.
وعلى الرغم من أن الاتفاق النووي هو اتفاقي دولي متعدد الأطراف، إلا أنه يستند بالأساس إلى الولايات المتحدة التي انسحبت من الاتفاق وفرضت عقوبات متدرجة على إيران التي لم تعد مستعدة للالتزام به وسط تنازلها عن فوائده، فهددت ومن ثم بدأت بانتهاك التزاماتها النووية. فواقعياً، ورغم الجهود التي بذلتها وتبذلها الدول الأوروبية (وكذلك الصين وروسيا)، لا يمكن لهذا الاتفاق الصمود لفترة طويلة، مما سيدفع الطرفين باتجاه اتفاق جديد.