تصنف منظمة الصحة العالمية مدى وشدة التلوث في المدن على أنه «طارئ صحة عامة»، بناءً على حقيقة أن 91 في المئة منا يعيش في مناطق تتعدي فيها نسبة التلوث الحدود القصوى المسموح بها. ويتوقع أن يزداد هذا الوضع سوءاً بمرور الوقت، حيث تشير تقديرات الأمم المتحدة، إلى أن نسبة من يقطنون المدن سترتفع من 55 في المئة حالياً إلى 68 في المئة بحلول عام 2050، مما سيضع المزيد والمزيد منا في بوتقة التلوث تلك.
وربما كان الجهاز التنفسي والرئتان هما المتضرران الأكبر لتلوث هواء المدن التي يقطنها حالياً أكثر من نصف سكان الجنس البشري. فعلى حسب دراسة أجراها مجموعة من الباحثين في عدد من الجامعات الأميركية، ونشرت نتائجها منتصف شهر أغسطس الماضي في العدد الأخير من مجلة الجمعية الطبية الأميركية (JAMA)، يتقارب حجم الضرر الواقع على الرئتين من جراء الحياة في مدن ملوثة الهواء، مع حجم الضرر الناتج عن تدخين علبة من السجائر يومياً، ولمدة 29 عاماً. وتوصل القائمون على هذه الدراسة لتلك النتيجة، من خلال قياس مدى تعرض 7 آلاف شخص يقطنون مدناً أميركية عدة، لغاز الأوزون القريب من سطح الأرض، ليكتشفوا أن سكان المدن يتعرضون لمستويات تبلغ من 10 إلى 25 جزءاً في المليار، مع العلم بأن الزيادة بمقدار ثلاثة أجزاء فقط في المليار تعادل في الضرر حجم الضرر الناتج عن تدخين علبة سجائر يومياً.
وفي الوقت الذي يُعتبر فيه تأثير هواء المدن الملوث على الجهاز التنفسي مثيراً للقلق الشديد، فيجب أن نقلق أيضاً من تبعات هذا التلوث على جوانب أخرى من الصحة، بما في ذلك الصحة العقلية. فحسب دراسة حديثة، أجراها علماء جامعة أمستردام بهولندا، وتم من خلالها تحليل ومقارنة نتائج 20 دراسة سابقة أجريت على مدار 35 عاماً، تبين أن معدلات الإصابة بالاضطرابات النفسية تزداد بين قاطني المدن. وبالتحديد، أظهرت هذه الدراسة أن سكان المدن يعانون من معدلات أكبر بكثير من اضطرابات المزاج والقلق.
والمثير أنه عند مقارنة الحالة المزاجية لمن يتاح لهم التمتع بمساحات مفتوحة واسعة، كإطلالة على البحر مثلاً، وجد أن مع كل ازدياد في مساحة هذه الإطلالة بنسبة 10 في المئة، انخفض معدل التوتر النفسي بمقدار ثلث نقطة، ولدرجة أن زيادة المتاح من المساحات المفتوحة والإطلالة البحرية قد ينقل الشخص من تصنيف التوتر المتوسط إلى تصنيف أقل.
ومؤخراً، تزايدت الشكوك في أن تبعات تلوث الهواء المدن تمتد لتأثيرات جسدية سلبية لم تكن تخطر على بال أحد من قبل، مثل العلاقة بين تلوث الهواء وازدياد احتمالات زيادة الوزن والإصابة بالسمنة. ففي الوقت الذي أجري فيه السواد الأعظم من الدراسات التي تدعم هذه الشكوك على الحيوانات، ورغم أن الميكانيزم الذي يربط بين التلوث والسمنة لا زال غير مفهوم بالكامل، يعتقد أن التلوث يغير من الميتابوليزم أو العلميات الأيضية الحيوية داخل الجسم، نتيجة الالتهاب الذي تتعرض له الرئتان من جراء جزيئات التلوث، مما يدفع الجسم لإفراز هرمونات تفرز فقط في حالات التوتر والضغوط. هذه الهرمونات تتسبب في خفض فعالية هرمون الأنسولين، مما يؤدي لارتفاع مستوى السكر في الدم. وتعتبر هذه العملية جزءاً من رد الفعل الطبيعي، كي يتوفر كميات كبيرة من السكر في الدم، لمكافحة أو مواجهة الأسباب والظروف التي وضعت الشخص في حالة من التوتر من الأساس. ولكن، إذا ما كنا دائماً في حالة من التوتر، حتى ولو بسيطة، بسبب التهاب الرئتين الناتج عن استنشاق جزيئات التلوث، فسيؤدي ذلك ارتفاع مستمر في مستوى السكر في الدم، وإعاقة خلايا الجسم عن التعامل معه بالشكل المعتاد، وهو ما يعتبر الخطوة الأولى على طريق الإصابة بالسكري.
ويرى البعض أن هذا الميكانيزم مشابه لنفس الميكانيزم، الذي يؤدي به التوتر المزمن الناتج عن ضغوط العمل، أو ضائقة مالية، أو ظروف اجتماعية خاصة، إلى الإصابة أو على الأقل المساعدة والتسهيل على الإصابة بالسكري، وإن كان سبب التوتر المزمن هنا هو حالة التهاب الرئتين الناتجة عن استنشاق الملوثات على مدار الساعة.
وربما كان من أغرب التبعات التي يعتقد أنها ترتبط بدرجة تلوث الهواء، تلك التي تربط بينه وبين مستوى أداء المتعلق بالوظائف العقلية والقدرات الذهنية للشخص. حيث تظهر بعض الدراسات أن الطلاب الذي يؤدون الامتحانات، ينخفض مستوى أدائهم في الأيام التي ترتفع فيها مستويات التلوث بشكل واضح. ويتضح من كل ما سبق أن العلاقة بين مستويات تلوث الهواء، وصحتنا الجسدية والعقلية ومستوى أدائنا الذهني، هي علاقة معقدة ومتشابكة، لم تفهم جميع أبعادها بعد، ولم تسبر أغوارها بشكل كامل.
*كاتب متخصص في الشؤون العملية والطبية