إلى أين يمضي الإنسان بحياته وأعماله في ظل الحوسبة و«الروبتة» الجارية في الأعمال والإدراك؟ إذا تمكن الإنسان بنفسه أو بالروبوتات والبرامج والتطبيقات الممكن والمتوقع أن تكون متاحة، من المحافظة على صحته ومعالجة نفسه ستختفي أو تتغير مهنة الطب والمستشفيات والمراكز الصحية والعلاجية، وإذا عرف الناس حقوقهم وواجباتهم، أو أمكن تنظيمها من خلال الشبكة تختفي أو تتغير طبيعة تنظيم وأعمال المحاكم والشرطة والجيوش والأسلحة، وقد بدأت الجيوش في اتجاهها نحو الطائرات المسيرة تغير بالفعل وعميقاً في معنى الحروب والصراعات، وإذا عرف الناس بأنفسهم دينهم بفعل المصادر والمنصات المتاحة في الشبكة وفرص التفاعل معها تنتهي أو تتغير المؤسسات الدينية في طبيعتها وتنظيمها وعلاقتها بالدول والأفراد، وإذا أمكن للناس تنظيم احتياجاتهم وأولوياتهم تتغير طبيعة المدن والبلدات وعلاقتها بالحكومات المركزية، وإذا تمكن الناس من تعليم أنفسهم بأنفسهم تنتهي أو تتغير جذرياً المدارس والجامعات. وإذا تمكن الناس أن يعملوا لأنفسهم وبأنفسهم تنتهي الحاجة إلى الشركات ومؤسسات العمل، وإذا تمكن الناس من تدبير الغذاء والطاقة بتطوير الزراعة أو بمضاهاة الطبيعة والتمثيل الكلوروفيلي تتغير على نحو كبير المنظومة الزراعية والغذائية، وإذا تمكن الناس من إطالة أعمارهم تتغير طبيعة الأسرة والعلاقات الاجتماعية وأنظمة العمل والتقاعد والتأمين الصحي،.. وهكذا يمكن التفكير في متوالية غير منتهية من التداعيات والتأثيرات الممكنة والمحتملة للحياة والمؤسسات والأفكار والمعاني عندما تحلّ الآلة في أعمال الإنسان أو تطورها أو تغيرها أو تغير في الإنسان نفسه.
لكن وعلى نحو آخر، فإن القدرات المعرفية والعملية والمهارات الجديدة التي تتاح للإنسان الفرد بفعل التكنولوجيا الحاسوبية والشبكية تعيده في تقدمه هذا إلى أسلوب حياته وعمله وموارده قبل الزراعة، عندما كان يعتمد على نفسه في كل شيء تقريباً، فالإنسان الأول كما الإنسان المتقدم يعمل بنفسه ولنفسه كل شيء، ويدبر شؤونه وأدواته وحياته وعلاقاته بنفسه من غير حاجة لتنظيم اجتماعي سوى الحد الأدنى، عندما كان الناس يتجمعون مرة إلى أربع مرات في السنة في ساحات عامة، اتخذت ابتداءً لدفن الموتى ثم تشكلت حولها طقوس واحتفالات دورية، أو يلجؤون إلى الكهوف للصلاة والاجتماع، ففي التقدم التقني والمعرفي للإنسان تقل حاجته للمؤسسات التنظيمية والاقتصادية والاجتماعية التي أنشأها بفعل التطور والاستقرار، أو بعبارة أفضل تتغير علاقته بها على نحو يغيرها تغييراً كبيراً.. ويتحول الإنسان في تقدمه العلمي والمعرفي الفائق إلى الإنسان الأول!
فأصبح ممكناً للناس التعلم والعمل والتدريب والتواصل من بعد، من خلال الشبكة ومنصات العمل والمعرفة والتواصل والتطبيقات التي انتشرت وامتدت في كل شأن من شؤون الناس، وبدأت بالفعل تتغير الأسواق ومؤسسات العمل كما تتغير الأعمال نفسها، ويصعد أيضاً في صحبتها الفرد وقيم الفردانية، لدرجة أن الحكومة البريطانية أنشأت وزارة متخصصة بمتابعة شؤون الناس الذين يعيشون وحدهم، وتصعد أيضاً وعلى نحو غير مسبوق قيم المساواة والشعور بها في كثير من الأحيان على نحو متطرف، مثل جماعات وأنشطة المساواة بين الذكور والإناث، والتي تحول جزء كبير منها إلى الإيديولوجيا النسوية «فيمينزم»، ولا شك أنها حركات ومبادرات وأيديولوجيات تعكس الإدراك الجديد والعميق بالذات وقدرتها وصورتها أيضاً، إذ لم تعد المرأة وهي قادرة على أن تكتسب المعارف والمهارات تنظر إلى نفسها أنها تابعة للرجل سواء كانت أباً أو أخاً أو زوجاً، ولكنها شريك على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، وبالطبع فإنها أفكار ومشاعر واتجاهات، لم تكن لتصعد على هذا النحو المؤثر لولا التغير الكبير الذي تحدثه التكنولوجيا في الأفكار وأسلوب العمل والحياة، لكن لنتذكر أيضاً أنها مساواة كانت تتمتع بها المرأة في عصور ما قبل الزراعة، بل إن كثيراً من الجماعات البشرية كانت في تنظيمها الاجتماعي والقيادي تتبع الأمهات (المجتمعات الأمومية)، وقبل أن تتشكل هذه الجماعات كان كلاً من الرجل والمرأة يتعاونان أو يتنافسان مثل كائنين مستقلين في نظرتهما إلى الذات والآخر.
وفي تغير عمل الناس، وقدرتهم على العمل من بعد أو انتهاء علاقتهم بمؤسسات العمل، يكون في مقدروهم أن يعيشوا في أي مكان ولا يعودون مضطرين للبقاء في المدن، ثم في حاجتهم لتدبير احتياجاتهم الأساسية، وخاصة مع تغير الموارد وعدم انتظامها يلجؤون إلى تدبير غذائهم وأدواتهم بأنفسهم فتعود في صحبة الحواسيب والشبكات الزراعات المنزلية..
إن الفردية التي كانت أزمة أو ضريبة أو شراً لا بد منه في مرحلة الصناعة، تتحول في مرحلة ما بعد الصناعة إلى فضيلة وأسلوب حياة يزداد رسوخاً في المنظومة الاجتماعية والعملية، ثم إلى فلسفة وأيديولوجيا. والحال أن الحياة، والسعادة بطبيعة الحال، ليست سوى أمرين: المعرفة بما هي البحث والتأمل وإدراك حقيقة الأشياء. والصحة الجيدة بما هي القدرة على البقاء وتحسين البقاء.