يصر النظام السوري على متابعة الحل العسكري لاستعادة إدلب وأرياف حماه وحلب واللاذقية، ويدرك العالم كله أن هذا الحل يعني تعرض نحو أربعة ملايين إنسان للخطر، ما يستدعي حدوث موجات جديدة من اللاجئين، الذين لن يجدوا طريقاً للنجاة غير الزحف على تركيا ومنها إلى أوروبا. وإلى اليوم لم ينجح مشروع تركيا بإقامة منطقة آمنة لاحتواء اللاجئين الذين تصاعد عددهم داخل الأراضي التركية إلى أربعة ملايين، مما جعلها تغلق حدودها أمام القادمين الجدد، وهم من نزحوا من مناطق المعارك الأخيرة في ريف إدلب وحماه، في الشهور الأخيرة، ولجؤوا إلى حقول الزيتون، منتشرين في البراري دون أية مقومات للعيش، وأمامهم شتاء يقترب بأمطاره وعواصفه، حيث سيكون الوحل والبرد والصقيع ملاذهم من القصف والدمار، وليس لديهم منفذ نجاة، فهم محاصرون من كل الجهات. لقد عبروا عن رفضهم للتنظيمات المتطرفة التي تحكم مناطقهم، وهم يدركون أنها هي التي أفشلت ثورتهم حين خرجت عن أهدافها، وجعلت العالم كله يرفض دعواتها لإقامة «إمارات» دينية متشددة لا يقبلها المسلمون أنفسهم. فكيف سيقبلها العالم ونموذجها الأقرب هو تنظيم «داعش» الذي شوّه صورة الإسلام في أعين البشرية وبات صورة للتوحش، وهم يدركون أن هذه التنظيمات وجدت بدعم دولي خفي للتشويش على الثورة السورية وتقديمها حركة إرهابية، وقد قامت هذه التنظيمات بمحاربة «الجيش الحر»، واتهمت المطالبين بالحرية والديموقراطية بالردة، وعلى الجبهة الأخرى تحاصرهم جيوش النظام وروسيا وإيران و«حزب الله» وكل الميليشيات الطائفية.
وملايين السوريين يخشون دخول هذه القوى التي ستقوم بالانتقام ممن خرجوا عليها، وأمامهم تجارب ما حدث في الغوطة، وأخيراً في حوران حيث لم يقم الروس بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في المصالحات.
والواضح أن الروس يبحثون عمن يلعب دور المصالحات على طريقتهم في حوران، ولكنهم لايجدون من يثق بنوايا النظام، وبالخطط الروسية، ويبدو موقف الأتراك مربكاً، فهم غير قادرين على حماية ملايين السوريين إذا حدث الهجوم، لأن ذلك يعني تحول المعركة إلى حرب عالمية، ومن غير المعقول أن تدخل تركيا حرباً ضد روسيا وإيران، وهما الحليفان لها، وليس أمامها سوى القبول بتدفق ملايين من اللاجئين الجدد بدوافع إنسانية، وأن تسمح لهم بالعبور إلى أوروبا.
والمفارقة الصعبة أن الولايات المتحدة حاضرة غائبة، تعلن في التصريحات أنها تصر على أن يكون الحل في جنيف، وبتنفيذ كامل للقرار الدولي 2254، ولكنها متمسكة كذلك بما اتفق عليه الرئيسان ترامب وبوتين بأن الحل هو تكوين لجنة دستورية ودعوة إلى انتخابات، وقد مر أكثر من عام ونصف، ولم تولد اللجنة الدستورية بعد، والأخطر أن هيئة التفاوض التي شكلت قبل نحو عامين لم تدع إلى جولة مفاوضات جادة، وإنما شغلت بقصة اللجنة الدستورية التي تعثرت بوهم (الأسماء الستة)، التي صارت ملهاة سياسية لإعطاء النظام فرصة الحسم في إدلب، ولا يوجد وضوح في الموقف السياسي الدولي، حيث يفترض أن تكون قضية إدلب بوابة الحل، وأن يحسم الأمر في استئناف التفاوض أو بدئه في جنيف، ويكون القرار بتراتبية مواده موضع تنفيذ فوري تنصاع له بالقوة الدولية كل أطراف الصراع، وهذا ما قد يجعل ملايين اللاجئين يفكرون بالعودة من المخيمات إلى بيوتهم المهدمة ليبدؤوا الترميم أو البناء، وريثما يتم تشكيل هيئة حكم انتقالي على مستوى الوطن كله، يمكن تشكيل إدارة محلية مدنية في مناطق إدلب وأرياف حماه وحلب واللاذقية، وأن تضمن الأمم المتحدة الحالة الأمنية مؤقتاً، ريثما يتم تشكيل مجلس عسكري.
العالم الذي يحذر يومياً من خطر وقوع كارثة إنسانية كبرى في إدلب مطالب بتقديم حلول فورية قبل أن يصل الشتاء القادم، حيث ستضاف إلى مأساة ملايين المشردين مخاطر البرد والأمطار والوحول والعواصف، ودون وجود أي شكل من الإغاثة حالياً.