بلغت الحالة الفوضوية للسياسة البريطانية ذروتها عشية التاسع من سبتمبر الجاري عندما صوّت البرلمان للمرة الثانية في غضون يومين بأغلبية ساحقة لمنع رئيس الوزراء بوريس جونسون من تنفيذ رغبته بإجراء انتخابات «مفاجئة» في محاولة لزيادة تأييده داخل البرلمان. ويبدو أن خصومه، بما في ذلك أعضاء داخل حزبه، لا يثقون في مساعيه الرامية إلى التوصل إلى اتفاقات ضرورية مع الاتحاد الأوروبي بهدف تفادي الخروج «من دون اتفاق» من التكتل في الحادي والثلاثين من أكتوبر المقبل.
ولهذا السبب، مرّر مجلسا «العموم» و«اللوردات» قانوناً جديداً يحظر على الحكومة مغادرة أوروبا من دون اتفاق جديد من شأنه تفادي خروج صعب.
وأصبح «جونسون» رئيساً للوزراء في الرابع والعشرين من يوليو عام 2019، بعد أن حصل على دعم من حزب «المحافظين»، فقد حلّ محلّ تريزا ماي عندما استقالت من رئاسة الوزراء إثر عجزها عن تمرير قانون لإجراء خروج سلسل من أوروبا. ونظراً لأن البرلمان كان في فترة استراحة عندما أصبح «جونسون» رئيساً للوزراء، لم تشهد الأسابيع الأولى له في المنصب تغييرات جذرية، لاسيما بشأن وجهة نظره بأن بريطانيا يجب أن تغادر أوروبا بحلول الحادي والثلاثين من أكتوبر المقبل، سواء أتم التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي أم لا. وما فعله أثناء راحة البرلمان كان الإقرار بمباركة الملكة عودة البرلمان لمدة أسبوع واحد، ثم تعطيل عمله أو تعليقه حتى الرابع عشر من أكتوبر عندما تدلي الملكة إليزابيث الثانية بخطابها الرسمي معلنة افتتاح دورة برلمانية جديدة، وعرض الأهداف السياسية للحكومة الجديدة. وتسبب هذا القرار في ضجة دستورية مع اتهامات بأن هذا الإجراء بمثابة «انقلاب».
وفي حين أن تأجيل عمل البرلمان البريطاني ممارسة شائعة لرؤساء الوزراء الجدد، لكن كان هناك إحساس عارم لدى النواب بأن «جونسون» تبنى هذا الخيار لتقصير الأيام التي يستطيع خلالها أعضاء البرلمان مناقشة سياسات «بريكست» وعرض مقترحات مضادة.
وبمجرّد عودة البرلمان للعمل أخيراً في الثالث من سبتمبر، صوّت على منع «جونسون» من مغادرة الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، ورفض دعوته لإجراء انتخابات مبكرة. ونتيجة لهذه الأحداث، صوّت 21 عضواً في حزب «المحافظين»، من بينهم حفيد و«ينستون تشرشيل» ضد جونسون وطُردوا من الحزب. وغادر وزيران، من بينهم «جو جونسون»، شقيق رئيس الوزراء، الحكومة. ومن المقرر أن يدخل البرلمان في فترة استراحة حتى منتصف أكتوبر المقبل. وخلال هذه الفترة، على رئيس الوزراء أن يتخذ قراراً بشأن بعض الخيارات المحورية ليس فقط لمستقبله وإنما أيضاً لمستقبل كل من حزبه والمملكة المتحدة.
غير أن الخيارات المتوافرة أمامه شديدة الصعوبة، إذ يمكنه محاولة إقناع الاتحاد الأوروبي بتغيير بعض بنود اتفاق الخروج الواضح الذي اقترحته من قبل «تريزا ماي» لكن رفضه البرلمان البريطاني ثلاث مرات. وقد أوضحت قيادة الاتحاد الأوروبي أن هذا الأمر من المستبعد حدوثه. وتبنت فرنسا، على وجه الخصوص، موقفاً متصلّباً بشأن ضرورة إنهاء المفاوضات. فالرئيس «ماكرون» لديه بنود أخرى مهمة على أجندته، خصوصاً مع التقاعد الوشيك للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
وإذا لم يتوصّل جونسون إلى اتفاق عند عودة البرلمان إلى الانعقاد، فإنه سيواجه قانوناً جديداً يمنعه من الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في نهاية أكتوبر من دون اتفاق مستحسن يتم التصديق عليه. وإذا تكبّر على رغبات البرلمان، فمن الممكن أن يواجه اتهاماً جنائياً.
ومن البدائل الأخرى، أن يتمكن من الدعوة لإجراء انتخابات عامة في نوفمبر المقبل، وزعم أن البرلمان كان يُعرقل رغبة الشعب البريطاني الذي صوّت بأغلبية لمغادرة الاتحاد الأوروبي في استفتاء «بريكست» عام 2016.
وفي هذا السياق، لدى «جونسون» رصيد مهم جداً، وهو الضعف الشديد في شعبية زعيم حزب العمال «جيرمي كوربين». ولا يزال «العمال» حالياً متأخراً في استطلاعات الرأي بفارق كبير عن حزب «المحافظين».
والخطر المحدق الذي يواجه «جونسون» هو أن البريطانيين سئموا حالة الهرج والمرج المستمرة منذ ثلاثة أعوام بشأن الانسحاب بدرجة يمكنها تقسيم أصواتهم بين أنصار «بريكست» المتشددين وأنصار «البقاء» المصممين والذين يقودهم في الوقت الراهن «الديمقراطيين الليبراليين». ويمكن أن تكون النتيجة برلمان آخر معلّق لا يوجد فيه حزب يمتلك الأغلبية.. وعندئذ ستستمر الفوضى!