أجرت روسيا وأوكرانيا عملية تبادل كبيرة للأسرى يوم السبت الماضي، ووجود اسمين بعينهما على القائمة يشي بأن عملية التبادل تؤسس لإجراء مفاوضات جوهرية حول مستقبل شرق أوكرانيا.
وكان الانفصاليون الموالون لروسيا، والذين يسيطرون على جزء كبير من شرق أوكرانيا (والمعروف أيضاً بدونباس) يحاربون حكومة كييف منذ أكثر من خمسة أعوام. وتبادل الجانبان 35 أسيراً لكل منهما، وبدا الاختلاف الشديد بين استقبال الأسرى في كلا البلدين يوم السبت واضحاً تماماً. فقد كان استقبال الأوكرانيين في مطار كييف حافلاً، وحضره حشد من الأقارب والصحافيين المتعاطفين، وشارك فيه الرئيس «فولودمير زيلينسكي»، بينما تعرض حرّاسه للدفع جانباً أثناء مشهد فوضوي. وفي موسكو، تم نقل الأسرى السابقين لدى أوكرانيا، ومن بينهم 13 مواطناً أوكرانياً والبقية روس، من دون احتفال، وسيُواجه بعضهم شهوراً من الاستجوابات لاستخلاص المعلومات الاستخباراتية.
غير أن كلاً من «زيلينسكي» والرئيس الروسي فلاديمير بوتين تخلياً عن شيء أو شخص مهم في المقابل.
فـ«فولديمير تسماخ»، الذي اختطفته أجهزة الأمن الأوكرانية من منطقة يسيطر عليها انفصاليون في بداية العام الجاري، قاد في 2014 الدفاعات المضادة للطائرات في «جمهورية دونستك الشعبية»، المعلنة من طرف واحد. وربما يمتلك «تسماخ» معلومات قيّمة حول إسقاط رحلة الخطوط الجوية الماليزية رقم 17 فوق منطقة انفصالية في يوليو 2014، والذي راح ضحيته 298 شخصاً معظمهم من هولندا. وعارضت الحكومة الهولندية بشدّة تسليم الرجل إلى روسيا، لاسيما أنها تقود تحقيقاً دولياً بشأن الحادث.
وأرسل وزير الخارجية الهولندي «ستيف بلوك»، يوم السبت الماضي، رسالة إلى برلمانه يُعرب فيها عن أسفه إزاء عملية التبادل. لكن روسيا أصرّت على جعل «تسماخ» جزءاً من الصفقة، غير أنها تنكر أي تورط في قضية إسقاط الطائرة الماليزية «إم أتش -17»، وتم تأجيل ذلك لمدة أسبوع، بينما سمح «زيلينسكي» لمحققين هولنديين باستجوابه. وبالتأكيد، سيخفي الروس «تسماخ»، وهو مواطن أوكراني، عن الهولنديين.
وما حدث يمثل إشارة مزدوجة من «زيلينسكي»، الذي تولّى السلطة في مايو: فهي تعني أولاً أنه، على النقيض من سلفه «بيترو بوروشينكو»، يرغب في تقديم تضحيات سياسية بالإفراج عن أفراد أوكرانيين، ثانياً: يكشف تصرفه لكل من بوتين والوسيطين في المحادثات بشأن شرق أوكرانيا، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أن إعادة إرساء السلام تمثل أولى أولوياته. ولدى «زيلينسكي»، الذي انتخب على وعد بإنهاء الحرب، تأييداً شعبياً يُمكّنه من اتخاذ خطوات يعتبرها أنصار «بوروشينكو» خيانة صريحة، وتهيئ الظروف أمام تسوية مع موسكو.
غير أن «زيلينسكي» ليس وحده هو من يسعى لإجراء تسوية. فبوتين سلّم أيضاً «أوليج سنتسوف»، وهو سينمائي حُكم عليه في 2015 بالسجن لمدة 20 عاماً بسبب مزاعم تدبيره هجمات إرهابية في شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في 2014. وجذب إضرابه عن الطعام لمدة خمسة أشهر العام الماضي انتباهاً دولياً واسع النطاق، وهو ما جعله أشهر سجين أوكراني في روسيا. ومن الواضح أن بوتين حافظ على «سنتسوف» من أجل عملية تبادل مهمة.
ويبدو سبب اعتقاد بوتين أن الوقت قد حان من أجل هذا التبادل أن ماكرون نشط على غير المعتاد في محاولة التقريب بين الأطراف. وخلال الأشهر الأخيرة، كان الرئيس الفرنسي يضطلع بدور عالمي كبير، في محاولة لتولّي دفّة القيادة في شؤون الاتحاد الأوروبي، واستضافة قمة مجموعة السبع بأسلوب قوي غير معتاد، ومحاولة التدخل في الأزمة الإيرانية، وإخبار بوتين أن بمقدوره العمل على إقامة نظام أمن أوروبي يشمل روسيا. ويحتاج ماكرون إلى تحقيق انتصار، وبالطبع يرغب رجل روسيا القوي في استغلال ذلك.
وتحدّث بوتين وماكرون عبر الهاتف يوم الأحد الماضي. وبحسب تصريح الكرملين حول الاتصال، كانت أوكرانيا هي الموضوع الرئيس. وكشف عن البنود التي يقترحها بوتين لإبرام اتفاق مع أوكرانيا: فهو يرغب في «تأكيد مكتوب» على غرار صيغة «شتاينماير»، التي اقترحها «فرانك – والتر شتاينماير»، عندما كان وزيراً لخارجية ألمانيا عام 2016، ويشغل الآن منصب رئيس الدولة. وتدعو تلك الصيغة إلى وقف لإطلاق النار، وسحب جميع الجنود الروس من الأراضي التي يسيطر عليها الانفصاليون، ثم إجراء انتخابات تؤسس لإدارات محلية شرعية في ظل حكومة كييف لكن مع منحها حكم ذاتي واسع النطاق. وبعد الانتخابات، تتولى أوكرانيا السيطرة على حدودها الشرقية مع روسيا.
وعلى رغم من أن صيغة «شتيانماير» مماثلة لنص اتفاقيات مينسك، وهي خريطة الطريق الوحيدة التي وقعت عليها كل من روسيا وأوكرانيا في عام 2015، لكن إدارة «بوروشينكو» لم ترغب في قبولها.
واعتبر وزير الخارجية الأوكراني السابق «بافلو كليمكين» الأسبوع الماضي أن روسيا ترغب في عقد انتخابات «تختار فيها الفائزين، أو تدفعنا لفعل ذلك سوياً». وأضاف: «عندئذ، ستقرر روسيا شروطاً خاصة لدونباس وتحاول فرضها علينا».
ولم ير «شتاينماير» الأمور بهذه الطريقة، فكان من بين شروط صيغته أنه إذا لم تكن انتخابات شرق أوكرانيا حرة ونزيهة تماماً، فلن يُطلب من أوكرانيا منح دونباس وضع حكم ذاتي الذي تصر عليه روسيا، في محاولة للاحتفاظ بدرجة من التأثير على أوكرانيا من خلال المناطق الناطقة بالروسية.
و«زيلينسكي» ليس ملتزماً بالموقف المتشدد للإدارة السابقة، ولديه تفويض بالتفاوض من أجل إبرام اتفاق. ويضع ذلك صيغة «شتاينماير» في دائرة الضوء مرة أخرى، لكن سيكون أمام الطرفين وقت صعب للتفاوض على كيفية إجراء الانتخابات ووضع دونباس بعدها.
*كاتب روسي مقيم في ألمانيا
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»